المؤسسة القيادية.. والمفاوضات والقرار

TT

كانت الأيام الأخيرة، التي سبقت إعلان نجاح وزير الخارجية الأميركي جون كيري في استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، بمثابة مؤشر واقعي دقيق، على الوضع القيادي في فلسطين، وهو وضع يدفع الرجل رقم واحد إلى اتخاذ قرارات وإنجاز خلاصات، مع أقل قدر من إشراك المؤسسات، حدث ذلك مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وكان حدث مثله مع عرفات ورابين، ذلك أن التركيبة القيادية المتوارثة فلسطينيا على مدى أكثر من نصف قرن من دون تعديل أو تبديل، كانت على الدوام مستبعدة عن دائرة رسم السياسات واتخاذ القرارات، إلا أن لها فرصة محدودة للغاية، وذلك حين يتطلب الديكور الديمقراطي أن يظهر القرار كما لو أنه صادر عن مؤسسة، كي يكتسب شرعية ولو شكلية، تساعد متخذ القرار على اتقاء موجات المعارضة، التي تصل غالبا في الساحة الفلسطينية حد الاتهام بالتفريط، إن لم يقل أكثر من ذلك.

وفي فلسطين على وجه الخصوص، فإن ما يحتم على الرجل رقم واحد أن يعمل بمفرده، هو أن القيادة التي صممت على مقاس الثورة، وائتلاف القوى، وانبثقت عن الشراكة في أداء مهام الكفاح المسلح، لن تكون فعالة حين تجد نفسها حيال وضع مختلف تماما، فيه مفاوضات مع «العدو»، وتنازلات لا بد من تقديمها، وتعهدات لم يجر الإقدام على مثلها في السابق، لذا اختصر دور القيادة في النقاش حول المواقف وليس القرارات، وإقرار ما يتم الاتفاق عليه في الغرف المغلقة، مع إطلاق الحبل على الغارب لتصريحات مؤيدة أو منتقدة، ما يشعر المراقب الذي لا يرى الصورة من كل الوجوه بالخوف على القرار والتخوف من مضاعفات الصخب في رفض ما تم الاتفاق عليه – على نطاق ضيق.

وما حدث قبل الإعلان عن التوصل إلى صيغة كيري، يبدو أنه سيفرض نفسه بقوة على ما سيأتي.. فحين تنصب موائد المفاوضات في رام الله وتل أبيب، فسينهمك المتفاوضون في نقاش صعب، وحين تبدو الأمور كما لو أنها مغلقة تماما، يدخل العراب الأميركي على خط السياسة وليس المفاوضات ليقترح صيغة لا يعلم المتفاوضون بها، تناقش مع صانع القرار فإن أقرها فساعتئذ تذهب للمتفاوضين للتكيف معها، وحين الوصول إلى حتمية اتخاذ القرار، يكرر الفلكلور المألوف نفسه من جديد، فتثور الاعتراضات ذات الطابع المبدئي والجذري، إلا أن هذه الاعتراضات تظل كرسوم لممارسة الديمقراطية لا أكثر، وحين تفرض الصيغة، فلا مانع ساعتئذ من أن يقال، لقد جرى أداء لعبة توزيع أدوار بين التشدد والاعتدال، وأن ما تم هو أقصى المراد من رب العباد.

على الجانب الفلسطيني، أقدم الرئيس محمود عباس، على خطوة أمن من خلالها عمله ووسع بها مساحة حركته.. وهي التعهد بأن كل ما سيتوصل إليه، لن يكون ساريا إلا إذا عرض على استفتاء شعبي، وحظي بموافقة الأغلبية، إن أمرا كهذا حدث في إسرائيل، التي وإن كانت ذات مؤسسات أكثر فاعلية من مؤسسات الفلسطينيين، إلا أن أشياء متشابهة مع الفلسطينيين يمكن أن ترى بوضوح ومنها مساحة الحركة المنفردة للرجل رقم واحد.

وحكاية الاستفتاء على الاتفاق، تجنب الرئيس محمود عباس دفع ثمن – بالقطعة – لكل خطوة يخطوها، فما أكثر الخطوات التي يتعين الإقدام عليها قبل الوصول إلى الاتفاق، وقبل طرح الاتفاق المحتمل على الاقتراع الشعبي في الاستفتاء العتيد.

إلا أن نقطة الضعف الأهم في الأمر كله، تبدو جلية حين لا يدعم القرار السياسي مجموعة خبراء متخصصين في شتى المجالات، ذلك أن مفردة واحدة لا يجري تدقيق كاف في مكانها ومعناها، يمكن أن تحمل أفدح الضرر، ومن ينسى أنه يوجد في حضن المنطقة «A» في رام الله قطعة لا تزيد على ثلاثة دونمات في وضع «C»؟ وذلك لم يحدث إلا بفعل الارتجال وعدم التدقيق إبان المفاوضات الأولى، ومن ينسى حكاية هيئة دعم المفاوضات التي أنفق عليها الملايين من الدولارات لتؤول وثائقها، أي وثائق المفاوضات المفترض أنها محمية داخل صناديق فولاذية إلى أن تباع بسعر البصل.

إن أمورا كهذه ينبغي تجنبها في المفاوضات التي بدأت ونأمل أن تتواصل وتتكلل بالنجاح، وذلك لا يكون بالشطارة أو الطلعات المكثفة على شاشات التلفزيون لإثبات قوة شكيمة المفاوضين وتمسكهم العنيد بالثوابت! وإنما يكون عبر مؤسسة مستنيرة نظيفة غير مخترقة من أي جهاز استخبارات، تضع الخطط والبدائل أمام صاحب القرار، ليجد أمامه خيارات واقعية يرجح أفضلها قبل أن يأخذ قرارا نهائيا بشأنها.

إن للفلسطينيين تجربة بائسة مع المفاوضات السابقة، بل إن مصطلح هل الشعب الفلسطيني عاقر؟ حتى لا تتولى المفاوضات كفاءات متنوعة ومبدعة، صارت متداولة على نطاق واسع. إن هذه التجربة البائسة التي لولا الربيع العربي لفعلت ما فعلت في الإطار القيادي الفلسطيني، يجب ألا تظل بأخطائها وبارتجالاتها قدرا على الفلسطينيين، بل لا بد من الإفادة من دروسها وعبرها، وتفادي تكرارها. فالأمر لم يعد أمتارا من الأرض تتوزع بين A.B.C ولا تنسيقا أمنيا مؤقتا، ولا اتفاقات اقتصادية مرحلية يمكن التعايش مع أذاها لبعض الوقت، إن الأمر صار أهم وأعمق وأكثر تعقيدا، إنه أمر يتصل بمصير القضية والناس، فليكن التفاوض الذي سوف يجري منسجما مع هذه الحقيقة وعلى مستواها، وإلا فالسير على خط دائري يوصل دائما إلى نقطة البداية.