أحوال المسلمين وعلاقتهم بالقرآن (في شهره): نظرة تقويمية

TT

السياسة (دوامة) لا نهاية لدورانها المتكرر: دوامة للمنغمسين فيها، ودوامة لمتابعيها، ولا سيما في هذه الحقبة التي ابتلي فيها الوطن العربي ببلاء (الربيع العربي)!!.

كنا قد أعددنا سلسلة مقالات عن المفاهيم العالية والمقاصد الراقية لصيام شهر رمضان، بيد أن الأحوال السياسية الجسيمة التي تحدق بالأمة شغلتنا عن ذلك.. وما نحن بنادمين على ما كتبنا، إذ هو جزء من الواجب تجاه الأمة، وليس يندم المرء على أداء الواجب.

والسؤال المركزي في هذا المقال هو: ما أحوال المسلمين وعلاقتهم بالقرآن في (شهر القرآن)؟

ثمة مقاييس دقيقة ومضيئة لقياس هذه العلاقة.. ومنها

1 - أن الصوم استبطان لـ(جوهر) الشخصية الإسلامية، بمعنى أنه شعيرة يغلب عليها (العمل الباطني) الذي لا يطلع عليه أحد سوى الله عز وجل.. نعم. إن كل عمل لا يُعد صالحا إلا إذا انبعث من خلوص الدين لله، وتجريد النية والقصد له - وحده - سبحانه، لكن للصوم خصوصيته الاستثنائية بلا ريب في هذا المجال.

والسياق القرآني الذي تخللته آيات القرآن: مبدوء بأن المعول عليه في منهج الإسلام هو (الباطن) لا (الظاهر).. (مع الاحتفاظ بقيمة المظهر ولكن دون غلو، ودون الاكتفاء به في التدين الحق).. لنقرأ السياق من أوله: ((ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)).. ثم بعد آيات معدودات يشرع السياق في الحديث عن الصيام.

هذه منظومة من العقائد والقيم والأخلاق والمسالك والمواقف (التطبيقية) مهدت لآيات الصيام، وهذه المنظومة برهان مبين على (صدق الباطن وطهره وجديته) في الالتزام بحقائق الإسلام ومنها الصيام.. نعم (صدق الباطن) الذي تبدى في الأعمال الصالحة.. وهذا المفهوم مؤيد بـ(سبب النزول).. قال الرازي - في «التفسير الكبير» -: ((قال القفال: قد قيل في نزول هذه الآية أقوال. والذي عندنا أنه أشار إلى السفهاء الذين طعنوا في المسلمين وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها مع أن اليهود كانوا يستقبلون المغرب، والنصارى يستقبلون المشرق والمغرب. فقال الله تعالى إن صفة البر لا تحصل بمجرد استقبال المشرق والمغرب، بل البر لا يحصل إلا عند مجموع من الأمور))، أي الأمور التي وردت في تلك الآية الآنفة.

والدليل الحاسم الجامع على أن الصيام (عمل باطني) أو جواني في الأصل: الدليل هو ختام آية الصيام نفسها: ((كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)).. فعلة الصيام ومقصده وحكمته هي (التقوى).

2 - وهنا ننتقل إلى المقياس الثاني الذي يقاس به سلوك المسلمين في علاقتهم برمضان، وبالقرآن.

فمن المفاهيم العميقة للتقوى:

أ - أنها هي المقياس الحق للتفاضل بين الناس. فقد هدم الإسلام الأسس الجاهلية للتفاضل بين الناس.. أسس مثل اللون.. والعرق.. والعشيرة.. وكثرة الأموال والأولاد الخ. على حين انتصر منهج الإسلام لمقياس واحد وهو (التقوى)، وهو مقياس تناهى في العدل والحق والحكمة. فإذا كانت المقاييس الأخرى - كاللون والعشيرة - ليست من الجهد (الذاتي) للإنسان، فإن مقياس التقوى لا يكون إلا بالجهد الذاتي، فالتقوى ليست كاللون - مثلا - يرثها الإنسان إرثا. وإنما هي مجموعة الأعمال والأخلاق الصالحة التي لا تنال إلا بالكسب الذاتي: بالعلم والمعرفة.. وبالعمل الصالح.. وبالخلق القويم.

ب - وأن التقوى هي (الضابط) الذي يضبط التصرفات على كل حال ضبطا يحميها من الجنوح للظلم والعدوان والفجور.. ولا سيما التصرفات أو المسالك السياسية.

إن من شأن الخلافات السياسية (كهربة) العداوات ورفع معدلاتها.. وما لم يتقيد السياسي بقيد التقوى، تصبح السياسة في سلوكه مثل السكين في يد المجرم (انظر إلى كم الفجور بين السياسيين في مصر مثلا): دون استثناء!!

والمثل التقريبي - ها هنا - مستمد من (الجهاد) أو الحرب. فالحرب من ألفها إلى يائها مناخ مكفهر بالغضب والعداوة والتربص والانتقام.. ولذا حرص منهج الإسلام على أن يوصي أتباعه بـ(التقوى) في مناخ الحرب وظروفها بوجه خاص.. لنقرأ آيات نزلت في غزوة العسرة: ((يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين)).. ونقرأ في الآيات التي نزلت في أحد: ((وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط)).

والحق أن هناك تقصيرا من الدعاة في تفصيل كلمة (التقوى) تفصيلا يعرّف كل مسلم بنصيبه الواجب منها وهو يؤدي واجبه في هذا الحقل أو ذاك.. كيف يتقي الله المعلم في إتقان توصيل المعلومة الصحيحة إلى تلاميذه وطلابه؟.. كيف يتقي الله الداعية نفسه في أمانة البلاغ للناس؟.. كيف يتقي الله كل مسلم في مراعاة آداب المرور وهو يقود سيارته؟.. كيف يتقي الله السياسي في تعامله مع الأمة؟.. ومع الأحزاب الأخرى المنافسة؟.. فلا يكذب، ولا يرفع شعارا يعلم أنه لا يستطيع تطبيقه، ولا يفجر في خصومة من أجل كسب حفنة أصوات، أو الحصول على منصب.. وهكذا.

لا يصح، ولا يُعد بلاغا مبينا أن يقول الداعية لسائل سأله: كيف أستطيع أن أستقيم وأنا في بلاد أجنبية أطلب العلم؟، لا يكفي أن يجاب السائل أو المستفتي بحديث: ((قل آمنت بالله ثم استقم)) فربما يحفظ السائل نفسه هذا الحديث، ومن ثم فإن مهمة الداعية يتوجب أن تدخل في التفاصيل التي تعين السائل في الاستقامة في أرض الواقع.. فالإجمال هنا نقص في تطبيق التقوى.

3 - ومن أعمق دلالات الصيام في (إصلاح الباطن) إصلاحا ينعكس على الحواس: قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).

من معاني هذا الحديث الجليل: الحث على (صوم اللسان).. وهذه نقطة تتطلب بعض البسط، فما تبثه وسائل الإعلام: الفضائيات والإذاعات غير المصورة والصحف ووكالات الأنباء: يتجاوز مائة مليار كلمة في اليوم الواحد. فكم هي نسبة الحق والخير والصواب في هذا الدفق الهائل من الكلام؟.. النسبة ضئيلة جدا بلا ريب. بدليل أنه لو كانت نسبة الحق والخير والسلام والتسامح تبلغ 10% - مثلا - لقل السوء في العالم إلى أدنى حد مستطاع، ذلك أن وراء معظم الجرائم والانحرافات والفتن والحروب الباردة: كلمات هي أشد فتكا من الرصاص الحي.

وبالانتقال إلى أفق أضيق وهو الحياة اليومية للأفراد نجد ذات المعضل، سواء بثت الكلمة عبر اللسان المباشر أو عبر الألسنة التقنية مثل (تويتر).

كيف يكون صيام رمضان علاجا لهذا القذف اللساني الذي يرمي الأمة بشواظه، ويزيد تمزيقها تفتيتا، ويفسد ذات بينها؟

ينبغي أن يعلم كل مسلم صائم: أن عدم كف لسانه عن الفحش في القول يجعل صيامه على حافة عدم القبول (طالع الحديث النبوي الصحيح) الذي سقناه آنفا.

إن العلاقة واضحة بين الصيام عن الحاجات المادية وبين الصوم عن الفحش والبذاء واللغو والفتنة.

فالطعام شهوة وحاجة

والكلام المرذول شهوة بغير حاجة!!

والمرء الذي يقدر على فطم جسده عما هو (حاجة) يستطيع - بداهة - أن يفطم لسانه عما ليس بحاجة مثل: الغيبة، والإرجاف، والنميمة، واللعن، والشتم، والكذب، والإسفاف، وسائر منكرات اللسان.

لو عمل المسلمون بما يمليه عليهم الصيام وحده لتحسن حالهم درجات كثيرة إلى الأفضل، ولكن الأصم ينادى من بعيد كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه.