من أو ماذا ينقذ العرب من أنفسهم؟

TT

لا نغالي إذا قلنا إن العالم العربي بات أسير مأزق تاريخي لم يشهد له مثيلا منذ النهضة العربية في مطلع القرن العشرين. وإن «الربيع العربي» بدلا من أن يفتح نافذة واسعة أمام الشعوب العربية لتقرر وتبني مصيرها بنفسها، دفع بهذه الشعوب إلى صراعات وحروب أهلية لا يعرف أحد كيف الخروج منها. لقد أضاعت الشعوب العربية قرنا بكامله وهي تحلم بالوحدة العربية، لتنتهي إلى ما نشهده في مصر والعراق وسوريا وليبيا وتونس ولبنان، من نزاعات دينية وطائفية ومذهبية وسياسية، تهدد بتفتيت أكثر من دولة عربية إلى دويلات، وتحول «الإخوة» العرب إلى أعداء لبعضهم البعض.

لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ سؤال يطرحه كل إنسان عربي على نفسه ولا يجد المسؤولون والمفكرون العرب وغير العرب من جواب شاف واحد عليه. بل أجوبة وتحاليل واجتهادات تزيد الفكر السياسي ضياعا والمأزق المصيري تعقيدا.

يقول البعض إن وراء كل المصائب التي لحقت بالدول والشعوب العربية يد إسرائيل. لأنها صاحبة المصلحة الأولى والأخيرة في بعثرة الأمة العربية وتفتيت تكتلها وتحريك تناقضاتها وشحذ النزاعات بين مكوناتها البشرية والثقافية. ولا شك في أن إسرائيل مارست هذا الدور بنجاح. وهناك من يحمل الغرب ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية مسؤولية هذا الفشل العربي المتمادي، ابتداء من تأييدها الأعمى لإسرائيل الذي عطل ويعطل السلام في المنطقة، وانتهاء باحتلال العراق الذي بعث الخلاف السني - الشيعي في المنطقة ووصولا إلى موقفها المتردد من الحرب الأهلية السورية. ومن الربيع العربي. ولا شك في أن هم الولايات المتحدة الأول والأخير في الشرق الأوسط كان ولا يزال إسرائيل والنفط، أما الديمقراطية فليست سوى مجرد أمنية جميلة أو ذريعة للتدخل أو عدم التدخل.

وهناك آخرون يحملون إيران وتصدير الثورة الإسلامية الإيرانية والمشروع الإيراني - الشيعي في المنطقة، جزءا كبيرا من المسؤولية. وليسوا بمخطئين.

غير أن هذه العوامل الخارجية الضاغطة والمتلاعبة بمصير الشعوب العربية ليست كافية بحد ذاتها لدفع العرب إلى ما هم عليه اليوم من حال. فلو لم تكن الشعوب العربية والأنظمة التي تحكمها - بمعظمها - قابلة للتأثر وللتلاعب بمصيرها. (حسب قول المفكر العربي مالك بن نبي) لما نجحت هذه العوامل الخارجية في تحقيق أهدافها.. فالمجتمعات العربية - عموما - التي خرجت من تحت حكم الاستعمار لم تجد بعد قواعد أصيلة ومتينة لأنظمة تحكمها. كما أنها - باستثناء الدول الخليجية - ما تزال اقتصاديا واجتماعيا أقرب إلى التخلف منها إلى البحبوحة والحداثة. وكل ذلك لا يساعد على قيام أنظمة حكم ديمقراطية تؤمن انتقال الحكم عبر الانتخابات الحرة ويوفر للشعوب الحرية والكرامة. ومن هنا بات الحكم في يد العسكر أو تحت رحمة الشارع.

ثمة عامل برز دوره مؤخرا في بلبلة المصير العربي ألا وهو الأحزاب والحركات السياسية الدينية وخصوصا الإخوان المسلمين. ذلك أنهم يتقدمون القوى السياسية التي قفزت إلى الحكم في مصر وتونس وتستعد للوصول إليه في سوريا وعدة بلدان عربية أخرى. ولكن هذه القوى أو الحركات أو الأحزاب المسماة بالإسلامية ليست ذات مبادئ أو أهداف أو مشاريع واحدة بل إنها تمتد على مروحة واسعة من «القاعدة» إلى «السلفيين»، ومن «حماس» إلى حزب الله، ومن «النهضة» إلى حزب العدالة التركي. منها من يعتبر الديمقراطية كفرا ومنها من يعتبرها منسجمة مع الإسلام والشريعة. منها من يقول بعودة المجتمعات العربية إلى عصر الإسلام الأول، وأخرى تقبل بالدولة المدنية والتعددية. وما يحدث في مصر اليوم من صراع بين «الإخوان» والقوى السياسية المدنية والعلمانية والديمقراطية، مرشح لأن يتجدد في كل بلد عربي يصل فيه الإسلاميون إلى الحكم أو يقتربون منه.

نعم، ما يحدث في مصر وتونس وسوريا والعراق ليس نهاية الربيع العربي فحسب، بل هو بداية شتاءات وطنية وقومية عربية طويلة. والمراهنة على من سيربح الجولة القادمة في الصراعات المحتدمة اليوم: هل هم الإسلاميون أم الليبراليون الوطنيون والقوميون والتقدميون؟ أم هم العسكر الذين سترتمي الشعوب بين أيديهم مرة أخرى كملاذ أخير، أم أن نزاعات فرعية جديدة سوف تنشب ضمن النزاعات الكبرى (القضية الكردية، مثلا) وتشهد الدول العربية والإسلامية انقسامات في كياناتها الوطنية الراهنة؟ كل شيء، لسوء الحظ، محتمل ووارد بل مرتسم المعالم، أمام عجز المجتمع الدولي عن التدخل لمنع وقوعه، وعجز العقول والإرادات العربية عن تلافيه.

لقد دفع اليأس بعض الشعوب العربية إلى التوجه نحو المجتمع الدولي طالبة تدخله ومساعدته لإخراجها من هذا المأزق التاريخي المصيري الذي زجت فيه. ويا لها من سخرية الأقدار.

أوليس «المجتمع الدولي» الذي تتمنى أو تطلب الشعوب العربية تدخله أو وساطته لإنقاذها من نفسها.. هو التسمية الجديدة للدول الكبرى التي كافح العرب والمسلمون طويلا للتخلص من استعمارها وهيمنتها..؟