القابلية للانخداع.. دول الاستقرار ودول الانتفاضات

TT

كما هو متوقع بعد 30 يونيو (حزيران) في مصر اتجهت جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي لمعهودها في صناعة العنف وصناعة الكربلائيات، في صناعة العنف تحركت أطراف الجماعة في سيناء وغيرها بالقتل والتفجيرات والهجوم على الشرطة واغتيال بعض ضباطها وأفرادها.

إن استراتيجية جماعة الإخوان واضحة وهي تحريك المجموعات التابعة لها أو المتحالفة معها من التيارات الجهادية لنشر الفوضى والتخريب بالتزامن مع توسيع اعتصاماتهم بطريقة تضمن تعطيل الدولة والتهجم على مؤسساتها بغرض دفعها للرد بالقوة، وبالتالي يستمرون في تشغيل الماكينة الكربلائية التي لطالما جربوها سابقا.

الجيد في المشهد الحالي هو أنه بدأت الصفوف المخفية أو المختلطة تتمايز في دول الاستقرار العربية تحديدا ولدى بعض النخب الدينية أو الثقافية أو الإعلامية، فظهر أتباع الجماعة بوجههم وأسمائهم معلنين عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبعض الصحف انضمامهم وتسارعهم لنصرة الجماعة في مصر لا لنصرة الشعب المصري، وأظهروا بما يشبه التصريح عداءهم لسياسات دولهم العليا، وهو أمر يسهل على الباحث حتى غير المتخصص أن يتعرف على كوادر ورموز الجماعة التي كانت تختبئ سنين عددا وبدأت تكشف عن نفسها بعد بدء ما كان يعرف بالربيع العربي الذي أثبت فشلا ذريعا على كافة المستويات وزادوا تكشفا بعد إسقاط حكم الجماعة بمصر.

ليس ثمة جدل في أنه من الجيد أن تعرف الدول بالتحديد من هو عدوها الاستراتيجي، وأن تتعامل معه على هذا الأساس، ومن دون تلك المعرفة وهذا التعامل فإن البوصلة تضيع والرؤى تختلط والتنفيذ يتعثر.

لم تكن عقود من العداء المستحكم الذي تكنه جماعة الإخوان المسلمين لدول الاستقرار العربية كافية بل أضافوا عليها عاما من الحكم كانوا فيه العدو الكاشح، فانحازوا للمحور الإيراني، وهيجوا أتباعهم ضد دولهم على مستوى التصعيد الشعبي وعلى مستوى الخطاب الآيديولوجي وعلى مستوى المواقف من الأحداث، وحين تتخذ الجماعة لنفسها موقع العدو الاستراتيجي فيجب ألا تنتظر أن تقابلها دول الاستقرار العربية بالترحاب، فالدول لا تحركها العواطف بل المصالح.

إن الوعي بخطورة تنظيمات الإخوان المسلمين وأتباعها يبدو متجها للاستقرار في دول الاستقرار، وها هو يستعيد مكانته في دول الانتفاضات، بحيث أصبحت توجهات النخب أو الرأي العام المتقلبة بطبيعتها تتجه لرفض حكم هذه التنظيمات، ودول الاستقرار لا تتردد في دعم طموحات الاستقرار في تلك الدول بكل ما تستطيع، بعيدا عمن أظهر العداء وصرح به.

في مصر، قدم الشعب تفويضا للقوات المسلحة لحمايته من حكم الجماعة وأتباعها والمتحالفين معها. وفي تونس، لم يزل الشارع يغلي بالرفض ولما يصل لنهايته بعد. وفي ليبيا، استطاع فرع جماعة الإخوان والميليشيات المتحالفة معه هناك فرض «قانون العزل السياسي» لإبعاد وإقصاء خصومهم السياسيين كمحمود جبريل وتياره وغيرهم، ولكن ليبيا بدأت تستشعر خطورتهم من جديد. وفي اليمن وعلى الرغم من أن الأوضاع هناك لم تزل في ترهل وشتات غير أن العملية السياسية بالرعاية الخليجية تشكل ضمانة لعدم انجرار اليمن لأي فصيل يريد أن يعادي محيط اليمن الطبيعي والاستراتيجي.

هذا في دول الانتفاضات الطامحة للاستقرار من جديد، أما في دول الاستقرار فها هي السعودية تستعيد مكانتها الإقليمية وتحظى باعترافات دولية بدورها الإقليمي المستحق، والملف السوري والتطورات المهمة التي يشهدها أخيرا خير دليل. وها هي الإمارات تنتصر في رهانات التنمية والوعي والسياسة. وها هي الكويت تنجز استحقاقا انتخابيا، وتتجه لمزيد من الاستقرار. والبحرين - كذلك - تجمع صفها ضد الإرهاب والعنف.

هذا في دول الخليج، أما الأردن، فقد «نشطت فيه الصحف الأردنية في توجيه انتقادات حادة ضد نشاطات وتوجهات قيادة جماعة الإخوان المسلمين»، وقال مسؤول أردني إن «هناك امتعاضا في الجو السياسي الأردني من تصرفات الجماعة» («الشرق الأوسط»، الثلاثاء الماضي).

هل يعني هذا نهاية جماعات الإسلام السياسي واختفاء أنصارها وخطابها من المشهد السياسي والعام في البلدان العربية؟ الجواب الصحيح والمتأني يقول «لا»، ولكن السؤال الأهم: كيف ستتصرف هذه الجماعات في المرحلة الحالية والمقبلة؟ إلى أين ستتجه بوصلتها؟ وما هي السيناريوهات المحتملة؟

الجواب عن هذه الأسئلة يحتاج شيئا من التفصيل، فالقسم الأكبر من الجماعة يبدو خياره واضحا وهو المذكور في بداية المقال.. تصعيد للعنف وتوسيع للمظاهرات لتعطيل مصالح الناس وتهديد المؤسسات العامة من حكومية وخاصة، وذلك استجلابا للرد الأمني الذي لا مناص منه وحينئذ يتم تشغيل الماكينة الكربلائية التي لطالما أتقنها الإخوان في استدرار تعاطف الرأي العام وبعض النخب التي لا تخلو من سذاجة أقله في وعيها السياسي.

القسم الآخر، وهو المتوقع أن يتخلق في السنوات المقبلة، أن تخرج بعض القيادات الشابة الممثلة للإسلام السياسي لتتجه أكثر نحو طرح مدني لا ديني يرفع الشعارات الحديثة ويتشكل في كيانات جديدة تحت أسماء أكثر مدنية وبخطاب أكثر تسامحا بل وتساهلا حتى يستطيعوا خلق مكان لهم في المشهد الجديد، ولكن ذلك لن يحدث إلا بعد كثير من الاضطرابات والخسائر، ولا أريد هنا الوقوع في «خديعة النماذج»، فاختلاف الوقت والمكان والتاريخ وطبيعة الخطاب تدخل عوامل للاختلاف ولكن شيئا يشبه قليلا ما جرى في تركيا يمكن أن يمنح مؤشرا يؤخذ في الاعتبار.

هناك ما يمكن تسميته «القابلية للانخداع»، وهو أمر ربت جماعة الإخوان المسلمين أتباعها عليه طويلا، فهم لا يأخذون المعلومات إلا من المصادر التي ترضى عنها الجماعة ولا يبنون تصوراتهم للأحداث إلا من زاويتها، وربما أن هذا ليس شيئا جديدا على من يعرف تاريخ الجماعة وطبيعتها، ولكن الجديد هو في حجم «القابلية للانخداع» التي ستقع فيها بعض النخب وبعض التيارات الشبابية في المرحلة المقبلة، حيث ستنطلي على كثير منهم تلك الحيل التي تعتمدها الجماعة وسيخرجون يهتفون بنصرتها، ولكن الدول يجب ألا تحكمها عواطف الجماهير بل مصالح الشعوب.

أخيرا، ستشارك بعض النخب بشتى مستوياتها في نشر «القابلية للانخداع» وستعود لاحقا لتعترف بمرارة الخديعة مرة أخرى.