خنساء الكاميرا

TT

مثل خنساء من القرن الحادي والعشرين، تحمل صفاء فتحي كاميرتها وتعود إلى القاهرة لتكون بقرب شقيقها المريض محمد. إنه يعاني من الفشل الكلوي وينتظر أن تبعث له السماء متبرعا ينقذه من عذابه اليومي. وبين الأخ الصعيدي الشاب الذاهب إلى موته بكثير من الإباء، ونهر النيل الذي ترمي فيه المصانع نفاياتها، تروي الشاعرة والسينمائية المقيمة في باريس حكاية فيها من الحميمية ما يستوعب محنة مصر.

تفتتح صفاء فتحي فيلمها التسجيلي الجديد «محمد ينجو من الماء» بمشهد للنهر. ونرى شخصين في مركب، رجلا يجلس مقرفصا في المقدمة وامرأة تمسك المجداف وتدفع الماء بذراعين قويتين. وهناك، على الضفة المقابلة، مبنى أصفر يشبه ضريحا أثريا.

إنه «معبد الحب». هكذا يسمونه. ونسمع المخرجة تخاطب محمد وتقول إنهما كانا ينويان أن يزورا، سوية، المعبد الذي أقامته إيزيس لتلمّ شتات أخيها أُوزوريس المبعثر في كل أنحاء مصر. أرادت الآلهة الفرعونية القديمة، ربّة القمر والأُمومة، أن تجمع شمل الجسد كما كان.

إنها قصة أخ وأُخت، تتكرر عبر العصور. لكن حديث صفاء عن محمد ليس شفويا مقفى مثل رثاء الخنساء لصخر، بل مصور ببساطة. وهو يكتسب بلاغته من وضعه في سياق التظاهرات الكبيرة التي تدفقت في مصر، حين انتفض الشعب واحتضر محمد. كان شابا صعيديا طيبا وأبا لولدين، يتحادث مع صفاء بلهجة أهل المنيا ويحلم بالحصول على كلية جديدة لكي يستمر في الحياة. وبعد إلغاء وحدة غسل الكلى في شمال الصعيد ينتقل إلى مستشفى خاص في القاهرة. لكن النفقات باهظة وهو غير متحمس لأن يشتري كلية ويستغل فقيرا. لقد قرر أن يعتزل وأن ينسحب إلى الأرض.

تصور صفاء فتحي جوانب من الهدير الذي ملأ القاهرة قبل الثورة وبعدها. وتتابع كاميرتها أحوال شقيقها قبل رحيله وبعده. كأنها لا تريد لموته أن يكون مجانيا، مثل مئات المرضى الذين يموتون في مصر، كل يوم، لأنهم لا يملكون ثمن العلاج. إن هناك من ينتفض على أمل تصحيح الأوضاع وغسل التلوث عن وجه البلد ونهرها. هذي هي مصر، هبة النيل. هكذا كتب المؤرخ هيرودوت، فماذا يبقى من مصر دون النيل؟ ماذا يملك الناس غير صحتهم ونقاء الماء الذي يشربون؟

لا يحب محمد أن يترك لعائلته ذكرى حزينة. وهو يطلب من ابنه أن يمسح الصور التي التقطها له أثناء عملية غسيل الكلى. إن في الفيلم عشرات الصور الجميلة والمؤثرة، منها مشاهد الولدين وهما يحملان نباتات الصبار والريحان ويذهبان مع والدتهم لزيارة قبر الأب. يمسح الجميع بأيديهم على الشاهدة، ونعرف الأُم من خاتم العرس في إصبعها. ترتفع الكاميرا لتتابع طائرا يحلق واطئا فوق ضفة النيل.

عند باب الضريح تتكوم المخرجة واضعة رأسها بين يديها وهي تقرأ الآيات. كل ما في المكان نباتي وأخضر. تقول إن الخضرة هي أرواح الموتى، تعرّش فوق تربتهم فيما يشبه الصورة الشعرية. لقد كتبت صفاء فتحي، بهذا الفيلم، أجمل قصائدها.