جدتي وإسكندر المقدوني

TT

تعتبر ملحمة جلجامش أقدم عمل شعري متكامل في التاريخ. كان جلجامش ملكا على سومر في جنوب العراق في الألف الثالثة قبل الميلاد. تروي الملحمة كيف أن مشكلة الموت شغلت باله، فحاول أن يتحدى المنية ويحقق الخلود. سمع بأن نبتة في مياه البحر في جنوب العراق تعطي الخلود لمن يذوقها؛ فقاد جيشه وراح يبحث عنها. ولكنه في الأخير خاب في مسعاه.

رغم مرور ألوف السنين على هذه الحكاية، فإنها ظلت في الواقع تتردد في ضمير العراقيين، وتأخذ أشكالا مختلفة. اختلطت في ذهن جدتي من جلجامش إلى إسكندر المقدوني. راحت تروي لي أمرها.

اسمع ابني يا خالد، هذا درس يفيدك في المدرسة. كان هناك ملك عظيم اسمه إسكندر المقدوني أبو القرنين. سموه أبو القرنين لأنه كان بقوة الثور؛ لا أحد يقدر عليه. سمع بأنه يوجد ماء في بلاد العراق من يشرب منه ما يموت أبدا، فجمع جيشه وسار إلى بغداد. فتح كل العالم وكل الشعوب سلمت له، لأنه كان بقوة الثور وأكثر. وصل إلى بغداد، وسأل أحد المرجعية فيها، وأعطى المرجع بعض الليرات الذهبية هدية، فدله على مكان هذا الماء. وركب معه على جمل حتى وصل له. وكان هذا أبو القرنين من رجال الله، «مو» مثل حكام هذا الزمان ببغداد. رفض أن يشرب من هذا «المي»، وقال: «لازم أخلي الشعب أيضا يشرب معي حتى نحصل على الخلود أنا والملة. فماكو فائدة إذا أنا حققت الخلود والشعب مات. ما فيها معنى ولا عدالة».

فجاء له المرجع بقربة من جلد الخروف. ملأها بماء الحياة ليأخذها معه إلى بلده في مقدونيا ويشرب منها مع الشعب. سار بالقربة حتى أدركه الليل فعلقها على شجرة ونام تحتها، ولكن الله (عز وجل) لم يرد الخلود لبني آدم، فبعث بالغراب، وأمره بأن ينقر القربة ويثقبها. طار الغراب حتى وصل إلى مكان الشجرة، فنقر القربة وجعل ماءها يخر على الأرض وينساب فيها، وعندما استفاق إسكندر المقدوني لم يجد شيئا في القربة، وعرف ما حصل، فقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله، لم يكتب لنا الله أن نعيش للأبد». رجع لبلده خائبا.

يا ابني يا خالد، الملك ما حصل الخلود، لكن هذا ماء الحياة الذي وقع وغاص في الأرض أعطى الحياة الخالدة لأرض العراق. هكذا بغداد ما تموت وتبقى خضرتها وحياتها لأبد الآبدين، لكونها شربت ماء الحياة.

قالت: ومرت أيام وفاتت أعوام، وخرج رجل من مدينة النجف اسمه مصطفى جمال الدين، وسار إلى بغداد، ولكنه ما وصل إلى مشارفها حتى أذهلته خضرة بساتينها؛ نخيلها باسق يحنو بظلاله على برتقالها ورمانها، توتها وتينها، فلم يتمالك غير أن ينشد ويقول:

بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر

إلا ذوت.. ووريق غصنك أخضر