كلام قاس

TT

يموج الشرق الأوسط بعنصريات ومماسات مختلفة يكتسيها التطرف خلقتها ظروف تاريخية وجغرافية جعلت هذه البقعة في منتصف العالم ملتقى لآيديولوجيات متشابكة وقضايا معقدة تتدلى نهاياتها المتداخلة في الشوارع العربية وكأنها خيوط رفيعة «ملضومة» لا تكاد تحرر أحدها حتى يتشابك ويتعقد العشرات غيره. إلا أن هذه الخيوط الملضومة يزداد تعقيدها وتتيبس كتلتها عند تدليها في شوارع منطقة الخليج العربي، هذه الشوارع التي تشترك مع بقية المنطقة الشرق أوسطية في مشاكلها وعنصرياتها وتطرفاتها، ثم تزيد عليها بروحها الخليجية الخاصة المتجذرة في عادات وتقاليد هي بحد ذاتها وحدة معقدة من خيوط رفيعة بالية أكل الدهر عليها وشرب.

ومما زاد خيوطها الملضومة بلة أن اكتشفت هذه الدول بحر السائل الأسود تحت أراضيها، وبين يوم وليلة، تحولت الأراضي الصحراوية القاحلة إلى مدن حديثة يانعة، تزهو شوارعها بالسيارات الحديثة وتتزين عواصمها بالعمارات الشاهقة وتتغنج مناطقها بالفلل الراقية، ولكن يا ترى هل تغيرت مع هذه التغيرات المفاهيم؟ هل استطاع السائل الأسود أن يشتري القدرة على تجديد الفكر، أن يوفر اللين المطلوب لتطويع وتطوير العادات، أم أنه جف عند سواحل نفوس لم تبحر مراكبها في يوم؟

قد يكون هذا الكلام قاسيا، وقد يتهم صاحبه بالتشهير، إلا أن الخطوة الأولى باتجاه أي تغيير تتأتي من مواجهة النفس، من قراءة الماضي وتداعياته لمعرفة الكيفية التي سيسير بها المستقبل.

وليكون الكلام أكثر وضوحا، فإن قضية عديمي الجنسية في منطقة الخليج العربي، هي المثال الذي يطرح نفسه عند مواجهة قضية عنصريات هذه المنطقة وممارساتها والتحديات النفسية والشخصية التي تواجه أصحابها. بلا شك، فإن أبرز قضية انعدام جنسية هي تلك الموجودة في الكويت، إلا أن سبب بروزها يعود لعوامل الحرية والانفتاح النسبيين في الكويت واللذين مكنا عديمي الجنسية من إعلاء أصواتهم بقضيتهم وما تبع ذلك من صحوة المجتمع المدني بأكمله لطرح هذا الموضوع كقضية إنسانية وطنية مجتمعية تخص المجتمع الكويتي بأكمله. إلا أن انعدام الجنسية هي ظاهرة إنسانية حارقة موجودة في أغلب المجتمعات الخليجية تقريبا، ومن يعمل عن قرب في هذه القضية الإنسانية يعلم تماما خطورة دهاليزها ووعورة طرقاتها.

وتكاد هذه القضايا تتعدد وتتكرر، ليكون منبعها واحدا، ألا وهو هوس النسب ونقاؤه.

إن قضية انعدام الجنسية تكاد تكون الأكثر إظهارا لمشكلة الخليج الآيديولوجية المتمحورة حول فكرة الهوس بالنسب ونقائه، وأصل القبيلة وسيرتها التاريخية، منطق انتهى وباد في العصر الحديث في أغلب أنحاء العالم، لكنه مازال قائما في منطقتنا الخليجية يعززه الثراء والمال. فلا تزال فكرة الأصل والفصل، الدم والانتماء، «ما كان عليه آباؤنا»، هي الحكم بين الناس وهي المقوم الأساسي لهم في مجتمعاتنا. وعليه، يصعب على هذه المجتمعات تقبل فكرة المواطنة الحديثة القائمة ليس على وحدة الدم أو وحدة البقعة الجغرافية، بل والتي تمتد لوحدة الهدف ولإخلاص الشعور بالانتماء. أن تكون أمة هو منطق يختلف عن أن تعطي جنسية، أن توحد شعبا بحبهم للأرض وباعتقادهم الراسخ بعدالتها وبإخلاصهم الحقيقي وعملهم الدؤوب من أجلها، يختلف عن منطق تجنيس الفرد لأن أصوله تقول حتى وإن كان خالي الوفاض من العمل والمحبة تجاهها.

ولقد كتب أحدهم ذات مرة على «تويتر»، مشيرا للحال في الكويت، ما معناه: نحن شعب اكتشف النفط، فسارع لإغلاق الباب خلفه، فلا داخل إلى حضرته بعد الآن. أكاد أرى هذه الحقيقة متجلية بين أغلبية الشعوب الخليجية، التي ما إن اكتشفت نفطها حتى طوقته وأغلقت الباب دونه واستثمرت.. في البناء والمشاريع والأرض والنفط، استثمرت في كل شيء.. ولكن ما زلنا نحاول من أجل بناء الإنسان.

لا يزال في الوقت فسحة ولا يزال للأمل مكان. نستطيع تحقيق التغيير في منطقة الخليج فقط، حين نستوعب فكرة أن القيمة الاستثمارية الأعلى هي في الإنسان، وأن هذا الإنسان تعلو قيمته بدرجة نقاء عقله، وليس بامتداد أصوله وإنما بامتداد علمه، وليس لرحابة قبيلته وإنما لرحابة فكره وتحرره، حينها، وحينها فقط، نستطيع أن نبني وأن نغير وأن نحقق المعادلة الصعبة التي تتوفر مقوماتها لدينا: إنسان جيد، أموال جيدة، بقعة جغرافية جيدة، فالفرصة أمامنا للتغيير واضحة وينبغي أن نأخذ بأسبابها.

* اكاديمية وكاتبة كويتية