صيد السمك في هاواي!

TT

في كتيبة «فلسفة الثورة» ذكر جمال عبد الناصر عام 1954 بعضا من ذكرياته عن أيام ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 الأولى، وجاء فيها أن لقاءاته مع النخبة المدنية كانت مفجعة بالنسبة له وهو الذي كان يؤهل نفسه لتسليم السلطة لهم. سبب الفجيعة كان أن كل من التقى بهم من المثقفين وقادة الأحزاب والجمعيات والجماعات المدنية كانوا دوما معنيين بنقد الآخرين، وتقديم أنفسهم باعتبارهم المخلص لمصر مما اعتراها من تخلف واحتلال ووهن. كان كل واحد من هؤلاء يقول «أنا».. حتى ولو كان السؤال عن صيد السمك في هاواي لكانت الإجابة «أنا» التي ليست لها علاقة لا بالصيد ولا بالسمك ولا بهاواي. كانت هذه الكلمات أبلغ ما قيل عن النخبة المدنية المصرية، التي يعتريها الكثير من الأنانية والانقسام والميل الشديد إلى التفتيت والانكسار، ومن ثم احتاجت إلى اليد الحديدية للعسكر.

تكرر الأمر مرة أخرى بعد ثورة أو هبة أو هوجة يناير (كانون الثاني) 2011 التي تغيرت بعدها مصر في كثير من الوجوه إلا في أمر واحد هو أن ثلاثية السياسة المصرية - العسكر والمدنيين والإخوان المسلمين - بقيت على حالها. كان واضحا أن العسكر بعد 60 عاما في السلطة قد قرروا الرحيل والعودة إلى الثكنات، وأن الإخوان قد عقدوا العزم على الاستيلاء على السلطة كمقدمة طبيعية لمشروعهم الكبير؛ أما المدنيون فكانوا وحدهم الذين لا يعرفون ماذا يفعلون. فعل المدنيون كل ما يمكن فعله في الساحات والميادين إلا الاستعداد لممارسة السلطة، وعندما تحداهم العسكر أن يختاروا رئيسا للوزراء يرضى عنه الثوار اختاروا د. عصام شرف الذي كان عضوا في الحزب الوطني الديمقراطي، ومشاركا مرموقا في لجنة السياسات بالحزب، ووزيرا في واحدة من وزارات مبارك. كانت النخبة المدنية مشغولة بأمور أخرى، منها ماذا تفعل مع الشباب الذي قرر أن مهاجمة وزارة الداخلية في شارع محمد محمود أكثر أهمية من الإدارة السياسية للبلاد؛ ومنها عما إذا كان مشروعا التحالف مع الإخوان المسلمين في الانتخابات التشريعية أم التحرك باستقلال عنها، فتزعم التنظيم الديني «التحالف الديمقراطي» إلى البرلمان. ولم يمض وقت طويل حتى جاءت لحظة الاختبار الكبرى مع انتخابات رئاسة الجمهورية فلم تفلح القوى المدنية في الالتفاف حول مرشح رئاسي واحد، وكانت المفاجأة كبرى عندما جاء د. محمد مرسي والفريق أحمد شفيق في المقدمة، فكان الإخوان في مواجهة العسكر، والدولة الثيوقراطية في مواجهة الدولة البيروقراطية، وكأنه لا قامت ثورة، ولا جاء ربيع.

وربما لم يظهر أمر فداحة تشوش وعجز الجماعة المدنية في مصر قدر موقفها من الانتخابات الرئاسية حين انقسمت مرة أخرى إلى ثلاثة أقسام: جماعة قررت إبطال أصواتها لأنها تعترض على المرشحين بعد أن فشلت في أن يكون واحد منها في المقدمة، وجماعة قررت التصويت إلى جانب شفيق باعتباره أهون الشرين من الناحية المدنية، وجماعة ثالثة ربما كانت الأغلبية قررت الوقوف إلى جانب مرسي، أي الإخوان المسلمين، على وهم إما أنهم تغيروا، أو أنهم من الأصل أكثر اعتدالا مما حاول مبارك جعلهم «فزاعة» سياسية. انتهي الأمر بفوز مرسي، ولم يمض وقت طويل حتى وجدت الجماعة المدنية وهي الأصل في الثورة أنها قد سلمت البلاد إلى الجماعة الثيوقراطية. كانت الجماعة المدنية المصرية قد فعلت ما فعلته النخبة المدنية الإيرانية من قبل عندما سلمت إيران للخميني لأنها تكره الشاه بشكل زائد، وكان ذلك هو ما فعلته النخبة الليبرالية الألمانية عندما سلمت البلاد لهتلر لأنها اعتقدت أنه ربما يكون قادرا على إنقاذ ألمانيا. ولم يمض وقت طويل حتى ظهر فساد المنطق، وبدأ «المستشارون» المدنيون للرئيس مرسي في الاستقالة الواحد وراء الآخر، لأن أحدا لم يستشرهم في شيء، ولأن الدولة أخذت تسير غصبا وعنوة في طريق دستور ثيوقراطي يقوم على ولاية الفقهاء استنادا إلى جمعية تأسيسية غير شرعية وإعلان دستوري لا شرعية له. كانت العلامات والشواهد لا شك فيها، أن مصر سوف تسير في طريق إيران، ومرة أخرى جاء الشباب في حركة «تمرد» ومعهم - صدق أو لا تصدق - العسكر مرة أخرى لإنقاذ البلاد من خلال ثورة شعبية يقال إنها ثورة على الثورة الأولى، أو موجة ثانية من موجاتها، أو تصحيح لها، أو باختصار ومن ناحية العملية البحتة الإطاحة بالدولة الثيوقراطية لولاية الفقهاء بدلا من سلطة الشعب.

عادت النخبة المدنية مرة أخرى إلى الصورة، وهذه المرة جاء امتحانها على يد الشباب والعسكر، فرئيس البلاد هو رئيس المحكمة الدستورية العليا، ونائب الرئيس هو د. محمد البرادعي أول من تحدث عن الثورة والتغيير الشامل، والوزارة المختارة هي خليط من خبرات مدنية متنوعة تعاملت وتعاونت مع كل النظم السابقة من عهد مبارك وحتى عهد محمد مرسي. لكن قصة التغيير لم تصل إلى نهايتها بعد، ولا توقف الاختبار للنخبة المدنية عن السريان، فقد خلق موقف الإخوان من النظام الجديد، واستمرارهم في مقاومته من خلال العمل على شل الدولة، أولى «العقبات» لانقسام النخبة المدنية ما بين جماعة «واقعية» وأخرى «مثالية» تنبئ بالمزيد من الانقسام في قادم الأيام. الجماعة الثانية كانت هي التي بدأت من خلال تصور للسياسة يقوم على عالم مثالي يقوم على جماعات طيبة تحتضن بعضها البعض، وتحتاج فقط إلى قدر من التواصل والتفاهم والصبر في الحوار حتى يمكن استيعاب الإخوان في الجماعة الوطنية. كان المسكوت عنه في هذه النظرة هو الاعتراض على «حكم العسكر» الذي لم يقم بعد، ومن ثم لم يبق إلا القبول بالأمر الواقع الذي هو الشلل بعينه. الجماعة الأولى الواقعية كانت نظرتها للسياسة تشتمل على بعد «القوة» ومن ثم توازن القوى، وكانت اللحظة حاسمة حيث لم يحدث في التاريخ المصري الحديث أن كان توازن القوى لصالح الجماعة المدنية المصرية كما هو الآن. النتيجة هي أنه رغم الاستعداد للقبول بوجود الإخوان في العملية السياسية القائمة، فإن ذلك سوف يكون وفق شروط الدولة المدنية القائمة، ولا يمكن السماح للإخوان بأن يحصلوا وهم خارج السلطة ما لم يتم القبول به وهم داخلها.

هذا الشرخ في الجماعة المدنية ليس سهلا، وربما لا تبرره حالة «الردح الليبرالي» الذي جرى في الصحف المصرية، لكن المؤكد أنه سوف يقرر مصير مصر خلال الفترة المقبلة.