ماض يلاحقنا

TT

إن المعارضة هي أيسر وسيلة لتظهر بمظهر من هو على صواب من الناحية الأخلاقية أو القانونية. بكيل الاتهام للطرف الآخر، يجذب المرء الانتباه إليه ويبرئ نفسه من الخطايا. ويعتبر هذا أسلوبا معروفا جدا للحكومات. لكي تكون مناسبا في حكومة، ينبغي أن يكون هناك نحو 100 سبب مختلف في صفك تماما. أما بالنسبة للمعارضة، فيكفي واحد من تلك الأسباب فقط. ربما تشوه سمعة الطرف الآخر وتدمره من خلال سبب واحد، وأيضا تذله وتضعفه. هذه وسيلة يستخدمها الفوضويون المخربون في مباريات كرة القدم. إن الصراخ في وجه الطرف الآخر هو استعراض أكبر للقوة من دعم الفريق المفضل. وللسبب نفسه، يكون أكثر إرضاء لهم.

سوف أتناول الآن كيف توظف أوروبا، التي دائما ما تتحدث عن «حقوق الإنسان»، هذا الأسلوب:

كانت الصومال مستعمرة بريطانية، وأعلنت استقلالها في عام 1960.. كل كتب التاريخ الحديث تقول هذا. لكن هذا ليس صحيحا؛. وما زال الأوروبيون يهدفون لعدم تركها لقمة سائغة في فم أية دولة أخرى. تأتي هذه الدولة في المرتبة الثانية من أسفل قائمة أكثر الدول جوعا في العالم، بعد السودان. يموت طفل واحد جوعا في الصومال كل ست دقائق.

لنأخذ مثالا دولة أفريقية أخرى، هي سيراليون. إنها دولة تملك أهم مناجم الماس والذهب واليورانيوم في العالم، غير أنها في الوقت نفسه تعد أفقر دول العالم.

يحصل العاملون الذين يتعين عليهم العمل في مناجم الماس، حتى وإن كانوا مرضى أو مقعدين، على 30 سنتا يوميا. وتستخرج أكثر شركات الماس البلجيكية شهرة في العالم نحو مليون قيراط من الماس سنويا من سيراليون وتبيعها نظير ملايين الدولارات. يبدو الناس أرخص من الماس، أليس كذلك؟

وتعد نيجيريا دولة فقيرة أخرى، اندلعت فيها إحدى أكثر الحروب الأهلية عنفا، وهي حرب بيافرا، لكنها تملك مخزون نفط ويورانيوم ضخما. وتعيش نسبة 70 في المائة من سكانها تحت خط الفقر. ويعاني أكثر من خمسة ملايين شخص من مرض الإيدز، ويولد الأطفال مصابين بالمرض. إن نيجيريا عاجزة عن استغلال مواردها بأية صورة ذات قيمة، فيما تجني الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى جزءا من أكبر عائداتهما النفطية من نيجيريا.

ولنتأمل مثال مالي، إحدى أفقر دول العالم: التي مزقتها الحرب الأهلية. كانت مالي مستعمرة فرنسية. لم ترحل فرنسا عن الدولة قط في أعقاب استقلالها في عام 1960. وعلى الرغم من امتلاكها مخزونا ضخما من الذهب والماس والغاز الطبيعي، فإن مالي ليست قادرة على استخراجه، كما أنها عاجزة عن استغلال تربتها الخصبة الاستثنائية. يقطع أوصال مالي، التي تحجبها فرنسا عن العالم الخارجي، الجوع، ولكنها ما زالت مصدر ثراء دول أوروبية عديدة.

دعونا ننتقل إلى الشرق الأوسط.. يقضي عشرة أشخاص نحبهم كل ساعة في سوريا، ومعظمهم أطفال. ويبحث من يفرون من المدن في مشاهد تذكر بأفلام الرعب الرهيبة عن ملاذ في دول أخرى للعيش في ثكنات. ويتعين على هؤلاء الأطفال ارتداء مجموعة واحدة من الملابس لعدة أشهر متواصلة، ولا يكون لديهم ما يتناولونه سوى الخبز كل يوم، ويعيشون في خيام؛ إن لم يقتلوا بشكل وحشي.

إن هؤلاء الذين يراقبون أوروبا عن كثب قد شاهدوا جليا ما قد حدث.

بناء على توقعها نتائج من الجيش، اكتفت أوروبا بالاسترخاء ومشاهدة المذبحة.

لقد ارتفع عدد من يقتلون في الحرب الأهلية المستمرة في أفغانستان بنسبة 23 في المائة خلال الأشهر الستة الأخيرة؛ 80 في المائة ممن قتلوا نساء وأطفال.

بينما يجري كل هذا مجراه، لعبت أوروبا دورا محوريا في المظاهرات في تركيا. «كيف تجرؤون على استخدام قنابل الغاز المسيلة للدموع؟»، «كيف تجرؤون على إغلاق حديقة جيزي؟»، و«كيف تجرؤون على استغلال الشرطة في إيقاف مجموعة من المتعصبين الذين يقومون بمسيرة حاملين عصيهم في أيديهم إلى منزل رئيس الوزراء لإعدامه دون محاكمة بالقوة؟» كان من اللازم حماية «حقوق الإنسان»! لكن فيما كان يجري كل هذا، في الوقت نفسه في فرنسا وإنجلترا، تم التعامل بعنف مع أفراد الشعب الذين خرجوا في مظاهرات في الشوارع، بل واستخدمت الصواريخ الباليستية.

تعشق أوروبا الحديث عن حقوق الإنسان.. إنها تنتهج أسلوب المعارضة.. تكيل الاتهامات للطرف الآخر بهدف الكشف عن انتهاكاته وتجاوزاته.. إنها تلقي على الطرف الآخر تلك المحاضرات في حقوق الإنسان، إلى درجة تجعلك تتخيل أنك قد أصبحت فجأة تتعامل مع خبير في الموضوع.. مع خبراء حقوق إنسان غاية في الدقة. لكن في الوقت نفسه، على وجه التحديد، يتضور الأطفال جوعا حتى الموت في كل دقيقة يوميا في الأراضي الأفريقية التي تستغلها أوروبا؛ إن دول الشرق الأوسط تقتل شعوبها بأساليبها الخاصة.

إن هدفي هنا ليس توجيه الاتهام لشعوب أوروبا: فالشعوب الأوروبية ممتازة من أوجه عديدة؛ إنهم متقدمون ومعاصرون ويقدرون الفنون والعلوم ومنفتحون على الإبداع والابتكار ويحبون الحرية.. كثير من صفاتهم مثالية.. إنهم يتحدثون كثيرا عن حقوق الإنسان، ومن الجيد أن يتحدث الناس عن حقوق الإنسان وأن يذكروا غيرهم بها، حتى إذا لم ينتبهوا للنصيحة بشكل دائم. قد يكون النهج الأمثل هو فعل ما يقولونه، ولكن دون المبالغة في الإجراءات التي يتخذونها باسم حقوق الإنسان.

إن حقوق الإنسان تشمل الجميع، حتى الطفل الذي يحبو على الأرض بحثا عن الطعام في السودان، ثم يموت؛ حتى السيدة التي تلد في بورما في خيمة، ولكنها لا تستطيع العودة إلى بلدها، والتي لن تقبلها أية دولة؛ بل وحتى أسرة في نيجيريا يغطيها المتطرفون بأغصان الشجر ويحرقونها. إن حقوق الإنسان ليست حقا يقتصر التمتع به على أوروبا أو الولايات المتحدة أو العديد من الدول التي تخطط للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي؛ إنها تكتسب من خلال فضيلة كون الإنسان إنسانا، وليس بالمال أو العرق. إن كل إنسان، بغض النظر عن شكله أو محل ميلاده، يملك تلك الحقوق. إن الله وحده هو الذي يهب تلك الحقوق، ولا أحد غيره. قد لا تعي أوروبا هذه الحقيقة.. ربما قد نسيت أوروبا، التي ظلت تحت تأثير الآيديولوجيات المادية لفترة طويلة جدا، هذه الحقيقة المطلقة البسيطة. بالطبع، هناك أشخاص مثاليون وجديرون بالاحترام في أوروبا، وعلينا أن نعمل كلنا معهم، وأن نذكر العالم بهذه الحقيقة المهمة. إذا كان بمقدورنا تذكير الناس، فربما يمكننا أن نظهر أن الناس المنسيين بجميع أنحاء العالم لهم حقوق. في تلك الحالة، سيتمتع العالم بسلطة تفوق القدر الكافي للسماح لهم بالعيش بصفتهم بشرا.