قبل 49 عاما كـاد الغنوشـي يصبح شيوعيـا!

TT

في عام 1988 أعددت لمجلة «المجلة» سلسلة حلقات تحت عنوان: «من أوراق راشد الغنوشي زعيم الاتجاه الإسلامي التونسي»، وكان اللقاء مع هذا الرجل، الذي يقف الآن على رأس هرم السلطة في تونس، في منزله المتواضع ولكن الجميل في شارع قناة السويس في منطقة بن عروس في العاصمة التونسية، وجاء هذا اللقاء بعد أيام من خروجه من السجن بمبادرة من الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي الذي كان بعد إطاحته لـ«المجاهد الأكبر» الحبيب بورقيبة أصدر بيانا تصالحيا تحت عنوان «بيان السابع من نوفمبر (تشرين الثاني)» جاء على أثره هذا الإفراج عن رمز سياسي كان قد أمضى فترة طويلة في السجون البورقيبية في انتظار حبل المشنقة.

في هذه الحلقات التي هي بمثابة سيرة ذاتية، والتي ستصدر قريبا في كتاب يحميها من النسيان، تحدث الشيخ راشد الغنوشي كرجل تعمق الجرح في نفسه حيث طرق كل الأبواب وسلك كل السبل وعانى ما عاناه من أجل ما سماه مواجهة محاولات اقتلاع هذه البلاد العريقة من بيئتها العربية والإسلامية وزرعها في بيئة غربية غريبة.. والآن وفي هذا العدد من «الشرق الأوسط» الذي جاء في ذروة أيام عيد الفطر المبارك، وجدنا أنه من الممكن نشر الجزء المتعلق بانتقال هذا الرجل من توجهه الناصري الاشتراكي، الذي كاد يقوده إلى الانتقال إلى تيرانا عاصمة ألبانيا التي كانت شيوعيتها أقرب إلى الخط «الماوي» منه إلى الخط السوفياتي، إلى توجهه الإسلامي الذي جعله بعد نحو نصف قرن من الأعوام أحد رموز ثورات «الربيع العربي» التي لا تزال مفتوحة على شتى الاحتمالات.

وحسب الشيخ راشد الغنوشي في سيرته الذاتية هذه فإنه تعرف على «الناصرية» عبر المذياع الوحيد الذي كان يملكه خاله في قريته «حامة قابس» الجنوبية، حيث كان هذا المذياع ينقل بث إذاعة «صوت العرب» المصرية لخطب عبد الناصر التعبوية التحريضية، مما جعله ناصريا، ومما جعله يقصد القاهرة التي وصل إليها فأصبح، كما قال، شريدا ومطاردا من قبل الشرطة، واضطر إلى العمل كمراسل للإذاعة الألبانية، وكاد يسافر إلى إحدى الدول الشيوعية، التي هي ألبانيا، هروبا من الواقع الذي كان فيه، وليواصل دراسته الجامعية التي لم يستطع مواصلتها في مصر.

يقول الشيخ الغنوشي: «عندما وصلت إلى مصر بدأ هذا الحلم يتعايش مع الواقع وراح يتقلص شيئا فشيئا، فقد صادفتنا صعوبات كبيرة، وإزاء ذلك فكرت في أن أذهب إلى إحدى الدول الشيوعية، وقد كنت في تلك الفترة أراسل إذاعة تيرانا الألبانية، فتلقيت دعوة للذهاب إلى هناك ومواصلة دراستي الجامعية، وكانت موافقتي فورية نظرا لأن النظام الألباني كان في نظري من أشد الأنظمة تناقضا مع البورقيبية، ثم بعد أن استقر قراري على قبول الدعوة الألبانية توجهت في اليوم المحدد إلى مركز بيع التذاكر لحجز تذكرة سفر إلى تيرانا، وهناك قابلت بالصدفة أحد أبناء قريتي فنصحني بالعدول عما كنت عزمت عليه وشجعني على التوجه إلى سوريا.. لقد أعجبتني فكرة صديقي وعندما وصلت إلى سوريا وجدت أن الأمور يسيرة جدا ووجدت نفسي منذ الأسبوع الأول على مقاعد الدراسة.

في جامعة دمشق انتسبت إلى كلية الآداب لدراسة الفلسفة، وكان هناك في تلك الفترة صراع بين التيار القومي والتيار الإسلامي، وبالنسبة لي فإنني لم أكن معنيا بالتيار الإسلامي، فما كان يهمني في التيار القومي هو الجانب الناصري، فانتميت إلى الاتحاد الاشتراكي الذي كان يقوده الدكتور جمال الأتاسي والذي كان من مهماته إعادة الوحدة بين مصر وسوريا.

بعد تدرجي في هذا الحزب بدأت أتساءل عن ماهية وطبيعة الخلفية الفكرية التي يستند إليها، وكان لبعض العناصر في جامعة دمشق دور في ذلك، فقد كان الإسلاميون ينشطون في الجدل الفكري والسياسي، وفي توزيع المنشورات، وقد طرح من خلال هذا الجدل مفهوم القومية العربية وعلاقتها بالدين، وكان هذا المفهوم غائبا تماما عن حسي، لكن الدراسة الفلسفية يسرت لي ذلك ودفعتني إلى التعمق وتأصيل هذا الفكر السياسي، وكنا في ذلك الوقت في صراع حاد مع البعثيين، فأخذنا نتساءل عن الفرق بين الناصرية والبعث، وحيث لم تكن هذه التساؤلات في السابق مطروحة، ولكن بعد التعمق في الدراسة الفلسفية والانخراط في الجدل العنيف الذي كان دائرا في تلك المرحلة فقد ثبت لدينا أن المسألة ليست سوى ترتيب أولويات؛ إذ إن البعـث يقـول: وحدة حرية اشتراكية، في حين أن الناصرييـن يقولـون: حرية وحدة اشتراكية.

بعد أن تيقنا من هذه الحقيقة وأن القضية هي مجرد شعارات وترتيب أولويات، بدأنا نتساءل عن مفهوم الوحدة المطروحة، وعن مضمونها الفكري والعقائدي، كما رحنا نتساءل عن الأساس النظري للاشتراكية والأساس الفلسفي للحرية التي ينادي بها كل فريق، وكنا نمضي الليالي في جدل عقيم، وكنا ننتهي في أغلب الأحيان إلى ما يشبه الضحك على أنفسنا، خصوصا أننا في خضم هذا الجدل كنا نتشاجر ونتخاصم من أجل أمور لا تستحق الخصام.

كان الأمر بالنسبة لي يبعث على الألم والمرارة، وكان من المحزن لي بعد كل هذه المرحلة الطويلة أن أكتشف أنني أصارع من أجل أشياء ليس لها أي أساس، وفي الحقيقة أن هذه الحالة التي أخذت أنتهي إليها قد ترافقت مع عملية جذب من قبل التيار الإسلامي الذي من خلاله طرحت قضية أخرى هي العلاقة بين القومية العربية والإسلام، وكانت هذه المسألة بالنسبة لي محسومة تماما؛ إذ كانت القومية العربية والإسلام بالنسبة لي شيئا واحدا، لكن هناك من لفت انتباهي إلى أمر كنت أجهله بالنسبة إلى القومية، وهو أن تياراتها تفرق بين الإسلام والقومية، وتضم في عضويتها بعض المسيحيين، بل إن بعض قادة هذه الأحزاب هم من المسيحيين، والحقيقة أنني أبديت انزعاجا شديدا تجاه هذه المسألة.. صحيح أنني في تلك الفترة لم أكن ملتزما بالإسلام إلا ببعض أجزائه، لكنني ما كنت أتصور بحكـم تكويني أن مسيحيا يقود الحزب الذي أنتمي إليه.

كان الجدل يقودنا إلى طرح معادلة تقول: مَن الأقرب إلينا: الباكستاني المسلم أم المسيحي العربي؟ وكنت في اندفاع هذا الجدل في إطار الاتجاه القومي أقول إن الأقرب لي هو المسيحي العربي، مع أن المؤكد في ضوء تجاربي اللاحقة أن المسألة يجب أن لا تطرح بهذا التبسيط وهذه العمومية، فأنا ضد الصليبي وليس ضد المسيحي، كما أنني ضد الصهيوني وليس ضد اليهودي، إننا ضد الصليبيين لأننا ذقنا الأمرين على أيديهم، ولأنهم غزوا بلادنا بمشرقها ومغربها، ولكنني لست ضد المسيحي العربي الذي يحترمني وأحترمه، وأعيش معه على الأرض نفسها، ونتكلم اللغة ذاتها، والذي أشترك معه في كثير من الهموم والتطلعات.

وأقول الآن إنها كانت تجربة مُرة بالفعل، تلك الأيام التي كنت أتحرق فيها بين قناعاتي السياسية وبين تكويني التقليدي والنشأة التي تربيت عليها؛ فنموي الفكري جعل إمكانية التوفيق بين هذين الموقفين غير واردة، ولذلك دخلت في جدل مع زملائي في الخلية الحزبية التي كنت أنتمي إليها حول مسألة العلاقة بين القومية والدين، وبعد ذلك جيء بالبعض للرد على تساؤلاتي بعد أن عجز إطار الخلية عن حل الإشكال، وكنت ألح على أن أتلقى جوابا صريحا: هل الإيمان بالإسلام يشكل شرطا لانتسابي إلى الاتحاد الاشتراكي أم لا؟ وبعد محاولات كان الجواب (لا) في حين كان يكفيني في ذلك الوقت كي أبقى في الاتحاد وتطمئن نفسي، أن يكون الجواب أن الانتساب إلى هذا الاتحاد يقتضي الإيمان بالله، وقد نزل هذا الجواب نزول الصاعقة على نفسي، خصوصا أنني سمعت من قال إنه يحق حتى لليهودي العربي أن ينتمي إلى هذا التنظيم.

إذ ذاك أدركت مدى الهوة السحيقة التي تردى فيها هذا الفكر، ووقعت أنا في جوفها، فدارت بي الدنيا في مرحلة من أهم مراحل تجربتي السياسية، وقد قررت في النهاية الانفصال عن هذا الحزب، وكان ذلك في العام 1966، ولعل ما عجل في هذا القرار الذي اتخذته، أنني كنت قد قمت بين 1965 و1966 وعلى وجه التحديد بعد انتهاء الدراسة في يونيو (حزيران) العام 1965 بجولة في عدد من الدول الأوروبية».