من أهم الأماكن الأثرية الجديرة بالزيارة في العراق مدينة الحضر الواقعة غرب الموصل. أسستها قبائل عربية في القرن الثاني (ق. م) ازدهرت بوصفها مركزا تجاريا فأصبحت تضاهي روما في بنيانها وحضارتها في عهد الملك سنطروق. ما زال كثير من بناياتها وتماثيلها قائما بعد أن دمرها الفرس وشردوا أهلها عام 241 م.
مر بها الجيش العثماني في أوائل القرن العشرين في طريقه لمواجهة الغزو الإيراني على العراق. وكان معهم جدي المرحوم اليوزباشي مصطفى ومعه جدتي نازندة رحمها الله. فقد اعتاد عساكر المسلمين على اصطحاب زوجاتهم معهم، خوفا على العرض والناموس.
تناولت جدتي الماشة الحديدية بيدها ونكشت بها نار المنقلة أمامنا فتألق جمرها كجواهر المرجان. راحت تروي لي أخبار هذه الرحلة: «يا وليدي خلودي، مرينا على بلدة بوسط الصحراء اسمها الحضر. هذي كانت ولاية كفار ما يعرفون الله. ولاية عاد وثمود.
بعث لهم الله بنبيه إبراهيم الخليل يبشرهم بالإسلام. ولكن ما سمعوا كلامه. وضربوه وعذبوه. بعدين، ألقوا به في النار ليحرقوه. ولكنه سبحانه وتعالى قال للنار كوني بردا وسلاما على إبراهيم. فخرج منها سيدنا إبراهيم بسلام بقدرة الله. وهذي النار بقت تشتعل إلى يومنا هذا. شفتها بعيني بقرب كركوك. بمنطقة يسمونها بابا كركر. ما أحد يقدر يطفيها. حتى الإنجليز بشركة النفط ما قدروا يطفوها.
وبعدين الله سبحانه وتعالى نزل غضبه على هالقوم، قوم عاد وثمود. وقلبهم إلى حجر. شفتهم بهذي عيني الاثنين يا وليدي. رجال ونسوان صاروا حجرا وصخرا. طوال وسمان مثل العمالقة يخوفون. ملكهم عاد ابن ثمود واقف في الوسط. ويده على سيفه. كان يريد يضرب سيدنا إبراهيم الخليل بسيفه لكن الله ضربه وقلبه إلى حجر. واقف ويبحلق بعيونه علينا، ولكن ما فيها حياة. كلها حجر. رحت ووقفت قدامه وتفلت بوجهه وقلت له: ليش ما سمعت كلام سيدنا إبراهيم وصرت آدمي ومسلم وتؤمن بالله؟ قلت ذلك في إذنه حتى يسمعني زين.
وعلى يمينه شفت زوجته الملكة. سافرة وتضحك مثل الموزينات. لا تستحي ولا تعرف العيب. الله قلبها حجرا. ورجلها بصفها ساكت، ساموط لا موط. ما يقول لها تستري يا حرمة قدام الناس. مشيت لها وتفلت بوجهها. وقلت لها تف عليك! خزيتي العراق».
ومضت جدتي بالكلام فقالت: «يا ابني يا وليدي، والله بعد ما قلبهم حجرا، كتب عليهم كتبته. شفتها بعيني أنا وزوجي المرحوم. كتبة غريبة محفورة بالحجر حتى زوجي اليوزباشي ما قدر يقرا حروفها. قال لي هذي كتبة ربنا ما أحد يقدر يفهمها غير الملائكة».
بعد بضعة أيام جرت انتخابات عامة في العراق وجاء المختار وأخذ جدتي في حافلة مليئة بالنساء من محلة الطوب ليدلين بأصواتهن في الانتخابات للحكومة.