هدية غراهام الأخيرة للصحافة

TT

من السهل أن نقول إن التغيير أمر جيد، ولكن عندما يحدث هذا التغيير بالفعل فإنه يكون بمثابة صدمة بالنسبة لنا، وكان هذا هو شعور المئات من العاملين بصحيفة «واشنطن بوست»، يوم الاثنين الماضي، عندما سمعنا رئيسنا، دونالد غراهام، يقول إنه سيبيع الصحيفة. ولكي تدرك ما حدث خلال هذا الأسبوع، عليك أن تفهم طبيعة العلاقة الشخصية بين المالك والصحيفة، فهذا الرئيس التنفيذي هو الذي يضع على مدخل مكتبه عربة خشبية قديمة كانت تستخدم لتوزيع الصحيفة، عندما كان يطلق عليها اسم «ذي بوست أند تايمز هيرالد». إنه يعرف أسماء جميع العاملين تقريبا، وعندما كان يستحضر إرث العائلة في جوائز يوجين ماير، التي سميت باسم جده، الذي اشترى الصحيفة، كانت هناك عاطفة جياشة في صوته في كثير من الأحيان. وكان مالك الصحيفة يتصل بنا بشكل متكرر، سواء عبر البريد الإلكتروني أو من خلال الرسائل المكتوبة بخط اليد. وكان المراسلون الأجانب الذين يخاطرون بحياتهم بعيدا عن الوطن يعرفون دائما أن غراهام يقرأ عملهم، لأنه سيكتب لهم تهنئة شخصية على الأخبار والرسائل التي ينشرونها. وكما يشهد المئات من المراسلين والصحافيين، كان الأمر يبدو أحيانا، كما لو كان غراهام هو الشخص الوحيد الذي يقرأ مقالاتهم. وكان الأمر يبدو وكأن هذا العدد الهائل من المحررين الذين عملوا على تلك المقالات كانوا مشغولين للدرجة التي لا تمكنهم من الكتابة، على عكس مالك الصحيفة الذي كان دائما ما يكتب لتهنئة المراسلين.

ولكي ندرك قدر الحب الذي يكنه غراهام للصحيفة، لنا أن نتخيل مدى صعوبة قيامه وابنة أخيه كاثرين ويماوث بإخبار العاملين بالصحيفة بأنهما سيقومان ببيعها. وكما هو الحال مع أي حالة وفاة في العائلة، كانت هناك مراحل من الحزن؛ صدمة ثم إنكار ثم قليل من الغضب، وربما قبول في نهاية المطاف.

شعر كثيرون منا بأن غراهام وعائلته قد فعلوا شيئا غير أناني وشجاعا، على حساب بعض العواطف الشخصية، فبعدما أدرك أنه لا يستطيع أن يحافظ على «واشنطن بوست» كصحيفة كبيرة إلى أجل غير مسمى، بدأ يبحث عن شخص آخر قادر على إكمال المسيرة. ولو انتظر غراهام وزادت خسائر الصحيفة، ربما كان سيضطر إلى بيعها بالمزاد لأعلى سعر، وهو ما كان سيفتح الباب أمام الأشخاص الذين يرغبون في استخدام الصحيفة لتحقيق أجندات سياسية شخصية، بدلا من الصحافة المستقلة. لقد اختار غراهام أن يقوم بذلك قبل أن يضطر لذلك، في الوقت الذي لا يزال فيه قادرا على تبني خيارات جيدة.

مبنى «واشنطن بوست» يحفل بكثير من الذكريات في غرفة الأخبار، التي على الرغم من البريق الجديد كانت المكان الذي أقنع فيه بِن برادلي مديرته كاثرين غراهام، بالرهان على صدق ما ذهب إليه الصحافيان الشابان بوب وودورد وكارل برينستين في أن الرئيس نيكسون كان يكذب.

لا يزال بمقدور كثير منا سماع صدى صوت برادلي في غرفة المؤتمرات، يروي النكات أو يغيظ رؤساء التحرير أو يلقي بملاحظات ساخرة عن الأفراد الذين كنا نغطي أخبارهم. وكمحرر شاب، اعتدت أن أتباطأ في الغرفة كي أسمع كل كلمة من برادلي أو خليفته لين دوني، أو الأساطير الأخرى في الصحيفة، وعادة ما كنت أخرج مفكرا، لا أصدق أنهم يدفعون لي كي أقوم بهذا العمل.

تحدثت مع برادلي يوم الاثنين في أعقاب الإعلان. وكان قد وصل إلى منزله الصيفي في هامبتونز، وأصيب بالصدمة كحال الجميع. وعلى الرغم من أنه سيبلغ عامه الـ92 في غضون أسابيع قليلة، فإنه قال: «ينبغي أن أعود إلى هناك لمساعدة غراهام».

أحيانا ما أعتقد أن هناك أشباحا في جدران المبنى ذاته. فعلى مدى أجيال طبعت «واشنطن بوست» صحفا في شارع 15. وإذا واصلت العمل حتى وقت متأخر خلال الليل (ومن منا لم يفعل؟)، يمكنك أن تسمع المطابع القديمة وقد بدأت الدمدمة في القبو استعدادا لطباعة النسخة الأولى، بعد ذلك يبدأ المبنى كله في الاهتزاز والطنين. في بعض الأحيان عندما تنشر الصحيفة خبرا مثيرا تجد سيارات من السفارات ومكاتب جماعات الضغط قد اصطفت للحصول على إطلالة أولى على الخبر.

مالكنا الجديد جيف بيزوس، مالك موقع «أمازون». ولن يمطر صحافي يحترم نفسه المالك الجديد بالقبلات، وكذلك لن أفعل أنا. يكفي القول إنه يمتلك قيما رائعة، وإنه من بين الأوائل الذين يسعون إلى اكتشاف طريقة لجعل المحتوى المطبوع (الكتب والصحف) متوافرة بصورة جذابة وسهلة في شكل رقمي عبر جهاز «كيندل». وينبغي علينا أن نرى في بيزوس شخصا ذكيا، أليس كذلك؟ فقد اشترى صحيفة كبيرة. وينبغي عليه أن يدرك أنه عندما يكون صاحب جريدة ذا مبادئ وشجاعا، فهذا أفضل شيء في العالم.

* خدمة «واشنطن بوست»