الجيش المصري والتحدي الديمقراطي

TT

أما وقد تهاوت تجربة الإسلاميين في حكم مصر منذرة بفشل رهان العرب والعجم عليهم كقوة سياسية يمكن أن تأخذ على عاتقها إرساء دعائم الديمقراطية ورعايتها في أعقاب ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، بالتزامن مع استمرار عجز القوى المدنية، ليبرالية كانت أم يسارية أم قومية، عن تشكيل تكتل سياسي بديل يدفع في ذات الاتجاه، تشخص الأبصار صوب القوات المسلحة كملاذ أخير في هذا الصدد، استنادا إلى كثير شواهد ومعطيات.

ففي إطار المراجعات الفكرية والعلمية للنظريات السياسية التقليدية التي تصدت لملف العلاقات المدنية العسكرية، برزت إسهامات الباحث الأميركي أوزيان فارول، الذي تقدم في مؤتمر كلية نيويورك للقانون مطلع العام الحالي بطرح علمي عن الدور الدستوري للجيوش، يحاول من خلاله نقد نظرية هانتنغتون ومن ساروا في رحابه، والتي كانت ترى أن الجيوش يجب أن تنأى بنفسها عن السياسة وتتبع السلطة المدنية المنتخبة، حفاظا على مهنية تلك الجيوش وحرفيتها من جانب وحماية للممارسة الديمقراطية من جانب آخر.

فعلى خلاف التدخلات العسكرية الدامية التي ألقت بظلالها على دول كثيرة في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا خلال النصف الثاني من القرن المنصرم، والتي أسفرت في غالبيتها عن إنشاء ديكتاتوريات عسكرية وتقويض البدايات الجنينية للديمقراطية في تلك البلدان، يذهب فارول إلى أن الجيوش الوطنية المتماسكة والموحدة التي تؤمن قياداتها بالديمقراطية، يمكن أن تضطلع بدور الحارس والضامن لعملية الانتقال الديمقراطي، خصوصا في الدول التي ظلت تعاني الاستبداد لفترات طويلة بينما لا تبدو القوى المدنية بها مهيأة للاضطلاع بهذه المهمة بسبب تجريف التربة السياسية لعقود طويلة فضلا عن وقوعها في براثن صراع المصالح والنزاعات الإثنية والسياسية فيما بينها، وهنا يمكن للجيش أن يقوم بدور الحكم بين القوى السياسية ويقود عملية ناجحة للتحول الديمقراطي على غرار ما تم في دول كتركيا والبرتغال عامي 1960 و1974.

غير أن فارول قد وضع حزمة من الشروط لاضطلاع الجيش بهذا الدور الديمقراطي بعد الإطاحة بالنظم الديكتاتورية، من أبرزها: أن يكون الجيش وطنيا ومتماسكا ويخضع لقيادة موحدة، وأن تكون مصالحه مؤمنة تماما، وأن تكون لدى قياداته قناعة بأهمية الديمقراطية وتقبل لما سوف تتمخض عنه تلك الديمقراطية كوجود رئيس مدني منتخب على رأس قيادة القوات المسلحة، التي ستتبع بدورها هذا الرئيس وتأتمر بأمره، إضافة إلى وجود مساحة معقولة من الثقة بين الجيش والقوى المدنية، التي غالبا ما تكون متصارعة وغير قادرة على التوافق وليست مؤهلة لتحقيق التحول الديمقراطي وحدها. ويشترط فارول أخيرا أن تكون تحركات الجيش في هذا الصدد مدعومة من قوى ديمقراطية خارجية.

واعتبر فارول أن الجيش المصري مؤهل بقوة للاضطلاع بهذا الدور في مرحلة ما بعد مبارك وتقديم نموذج ملهم في هذا المضمار، فعلاوة على كونه جيشا وطنيا موحدا ومتماسكا يحظى بتأييد وتقدير واسعين على المستوى الشعبي، لطالما لعب دور الحكم بين الفصائل السياسية المتنافسة. وبدورها، أبدت الولايات المتحدة تأييدها للدور الديمقراطي للجيش المصري حينما أعلنت، بعد طول تريث وتردد، أن تدخله يوم الثالث من يوليو (تموز) الماضي لعزل الرئيس مرسي لم يأت في عداد الانقلابات العسكرية، بقدر ما شكل حماية للتجربة الديمقراطية الوليدة في البلاد.

ويثبت تاريخ الجيش المصري، بما لا يدع مجالا للشك، أنه ليس جيشا انقلابيا بالطبيعة، فإبان أزمة عام 1954، وحينما أطاح عبد الناصر باللواء نجيب من رئاسة الجمهورية، اندلعت مظاهرات شعبية حاشدة في مصر والسودان على مدى ثلاثة أيام تؤيد نجيب وتطالب بعودته، كما رفض سلاح الفرسان بقيادة خالد محيى الدين، والذي كان ينحاز لخيار الديمقراطية وعودة الجيش لثكناته ويبدي تعاطفا مع الرئيس محمد نجيب، الإطاحة بالأخير وهدد بالصدام مع عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة، واقترح أنصار نجيب من الضباط الذين توافدوا على منزله بزعامة قائد حرسه في الجيش وقائد حامية القاهرة أن يتدخلوا لحسم الموقف بالقوة لصالحه واستعادة الديمقراطية، لكن نجيب رفض ذلك مخافة نشوب صراع داخل الجيش، كما أبى إقرار الديمقراطية عبر انقلاب عسكري.

وإبان ثورة يناير 2011، انحاز الجيش المصري للإرادة الشعبية ونزع الشرعية عن مبارك وأدار البلاد فترة انتقالية مدتها ثمانية عشر شهرا بعد أن أوكل مبارك السلطة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة عند تنحيه في 11 فبراير (شباط) 2011، أجرى خلالها انتخابات برلمانية ورئاسية واستفتاءات شعبية على تعديلات دستورية كانت جميعها هي الأكثر نزاهة تقريبا في تاريخ مصر، ثم أوفى بوعده وقام بتسليم السلطة إلى أول رئيس مدني منتخب في نهاية يونيو (حزيران) من عام 2012.

غير أن الرهان على الجيش كراع أو حاضن لعملية التحول الديمقراطي لا يعني الحيلولة دون تأطير هذا الدور دستوريا ووضع معايير موضوعية واضحة وشروط قانونية صارمة لتنظيمه عبر تحديد الصيغ أو الآليات التي سيتبناها الجيش المصري بغية تحقيق هذا المقصد الديمقراطي، فضلا عن المدى الزمني المطلوب إلى حين استتباب الديمقراطية واستقرار ركائزها، كيما نضمن عدم سرمدية الدور السياسي للجيش أو تجاوزه حدود المسموح، وبما يحول دون استغلال بعض القيادات العسكرية له لتسويغ أي تدخل سافر في العملية السياسية لاحقا وفق أي صورة من الصور، على غرار ما جرى في تجارب دولية كثيرة من أبرزها التجربة التركية خلال الفترة من عام 1960 وحتى 2003، حيث قنن الجيش تدخله في السياسة بذريعة حماية الجمهورية والعلمانية حتى برر لنفسه الانقلاب على الديمقراطية مرات أربع دامية ومؤلمة لم تبرأ تركيا، دولة ومجتمعا، من تداعياتها السلبية الخطيرة حتى يومنا هذا.

* رئيس تحرير مجلة «الديمقراطية» بالأهرام