التخصص في العلوم الإنسانية: حياة جيدة لا وظيفة

TT

توصل أساتذة العلوم الإنسانية إلى ما يبدو أنه دفاع سهل للغاية ضد أولئك الذين ينتقدون الشهادات العلمية في الأدب الإنجليزي أو الفلسفة ويقولون إنها مضيعة لأموال التعليم وإنها تعد بمثابة تذكرة في اتجاه واحد نحو البطالة. تلك الادعاءات غير صحيحة بالمرة، فالعلوم الإنسانية تقوم بإعداد الطلاب لتحقيق النجاح في مجالات العمل المختلفة مثلها في ذلك مثل كل تلك التخصصات العملية، وربما بشكل أفضل، فنحن نقدم وسائل وأدوات للفكر، ونعلم طلابنا كيفية فهم وتحليل الأفكار المعقدة، ونساعدهم على تطوير قدرات التعبير، سواء الخطية أو الشفهية، علاوة على أن المقالات المطولة التي نطلب منهم كتابتها تعزز من قدرتهم على القيام بعمل مستقل. وبالإضافة إلى ذلك، نحن نعلمهم كيفية النظر إلى الأمور بشكل منطقي، وهو ما يؤدي إلى نجاح المشروعات المهنية في نهاية المطاف. قد يبدو مثل هذا الدفاع فعالا على المدى القصير، لكنه خطأ جسيم في حقيقة الأمر.

في الآونة الأخيرة، كتب باحث في العلوم الإنسانية في صحيفة «وقائع التعليم العالي» بفخر عن أحد طلابه الذي كتب ببراعة عن الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا، لكنه مع ذلك يريد أن يكون طبيبا جراحا في صفوف القوات المسلحة. وقدم مقال نشر مؤخرا على موقع «بيزنس إنسايدر»، «11 سببا لتجاهل الحاقدين وتخصصات العلوم الإنسانية»، فعلى سبيل المثال عليك أن تكون قادرا على القيام بأمور لا تستطيع الآلات القيام بها في الاقتصاد القائم على الخدمات، كما ستكون قادرا على تفسير الأفكار والترويج لها، وستكون قادرا على أن تبرز في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. وعلى الموقع نفسه، كتب بركن داريل، الرئيس التنفيذي لشركة «لوجيتك»، عن السبب الذي يجعله يفضل تعيين المتخصصين في الأدب الإنجليزي، مضيفا «أفضل الرؤساء التنفيذيين والقادة هم كتاب جيدون للغاية ولديهم هذه القدرة على التعبير عما يفكرون به».

في الحقيقة، يزداد غضب بعض زملائي بسبب هذا الاتجاه في التفكير، حيث قال لي صديق عزيز يدريس العلوم الإنسانية منذ فترة ليست بالطويلة «أعتقد أن العمل الذي نقوم به في إعداد الناس لدراسة القانون والأعمال التجارية أفضل مما يقوم به الناس في الاقتصاد».

وعلى هذا الأساس، لا يبدو أن هناك مشكلة، فإذا كنت تبحث عن النجاح فنحن نرحب بك، لكن العلوم الإنسانية ليست عن النجاح، لكنها للسؤال والاستفهام عن النجاح وعن كل القيم الاجتماعية المهمة. لقد علمنا سقراط ذلك، ويجب علينا ألا ننسى ذلك. الشخص الذي يدرس الأدب أو الفلسفة يتعلم كيفية التفكير بوضوح والكتابة بشكل جيد، لكن تلك المهارات ما هي إلا وسيلة لتحقيق الغاية. هذه الغاية، كما يقول أفلاطون، تعلمنا كيف نعيش. وقال أفلاطون في كتاب «الجمهورية»: «هذا النقاش ليس حول أي سؤال للحصول على فرصة، لكنه عن الطريقة التي ينبغي للمرء أن يعيش بها».

هذا هو لب العلوم الإنسانية - حوار عميق وواع حول السبيل الذي يجب أن ننتهجه في الحياة. فكل الأوضاع قابلة للنقاش.. كل القيم قابلة للنقاش. وقد تحدث رالف والدو إيمرسون عن روح الإنسانية في كتابه «الاعتماد على الذات» بالقول «يجب ألا يعوقنا اسم الخير عن البحث، بل يجب أن نستكشف إذا كان ذلك هو الخير فعلا أم لا». وقال إنه لن يقبل ما يطلق عليه العالم «جيدا»، من دون البحث، فهو سيبحث في الأمر كما فعل سقراط ويتبين ما إذا كان الأمر جيدا فعلا.

وقد أمضى سقراط، الذي ركز على روح الإنسانية ربما أفضل من أي شخص آخر، وقته في التجول في جميع أنحاء أثينا يسأل الناس عما إذا كانوا يعتقدون أنهم يعيشون حياة فاضلة أم لا. وكان يرى أن مدينته كان تمتلئ بالكبرياء والكسل، وأنها بحاجة إليه لإيقاظها. وكان الأثينيون يسألون أنفسهم إذا كانت الحياة التي يعيشونها جيدة أم لا. لم يساعدهم سقراط في الوصول إلى طريق النجاح، بل ساعدهم في الوصول إلى البصيرة والفضيلة.

الآن، يعشق الأميركيون النجاح - النجاح لأطفالهم على وجه الخصوص. وكوالد لأبناء في سن العشرين، أنا أفهم هذا وأتعاطف معه. لكن مهمتنا كإخصائيين في العلوم الإنسانية ليست في تأييد القيم الموجودة في المجتمع كيفما كانت. نحن هنا للتشكيك في تلك القيم، وربما استخدام أفضل ما كان يعتقد، ويقال تقديم بدائل.

نحن نعتقد عادة في ثنائيات. فالفانيليا عكس الشوكولاته. وعكس النجاح - غالبا ما يعرف اليوم باسم عمل مرموق وراتب كبير - هو الفشل. لكن الكتب العظيمة تخبرنا بأن هذا ليس صحيحا بالضرورة. خذ على سبيل المثال حياة هنري ديفيد ثورو من اختياره الفقر طواعية وتفانيه في الطبيعة والكتابة. وقد تبنى بعض من طلابي قيما مماثلة لثورو، وقد فعلت ذلك على الأقل في جزء من خلال دراسة العلوم الإنسانية. لقد أصبحوا ناشطين في مجال البيئة وحراس غابات. أو أنهم عملوا في وظائف برواتب متواضعة لقضاء كل وقتهم في الهواء الطلق. هؤلاء ليسوا فاشلين، ولا أولئك الذين يعملون لخدمة الفقراء، أو الذين يستكشفون مواهبهم الفنية، أو الذين يخدمون في الجيش. هؤلاء الطلاب عادة لا يسعون لتحقيق النجاح التقليدي. لكنهم غالبا ما يستلهمون ذلك من مقررات العلوم الإنسانية، ومن ثم يختارون لبعض الوقت على الأقل شيئا ما عدا حياة الطبقة المتوسطة من العاملين في الشركات.

* خدمة «واشنطن بوست»