دولة «الرؤساء المكلفين»

TT

قطع الرئيس المكلف تشكيل الحكومة اللبنانية، تمام سلام، الشهر الرابع من التكليف، وأحزاب وتيارات جمهورية العشرة آلاف كيلومتر مربع ما زالت منقسمة، ليس فقط حيال حصصها فيها، بل أيضا حيال طابعها؛ حكومة حزبية جامعة لكل تلاوين الفسيفساء اللبنانية وتناقضاتها العميقة، أم حكومة تكنوقراط حيادية تتجاوز التناقضات السياسية لتركز على هموم البلد.. وما أكثرها.

قد تكون تعزية اللبنانيين الوحيدة هذه الأيام أن تمام سلام لم يحطم بعد الرقم القياسي في التمتع بلقب «الرئيس المكلف» في لبنان، إذ سبقه إليه الرئيس نجيب ميقاتي، الذي بقي رئيسا مكلفا لمدة خمسة أشهر ونصف الشهر، ومن ثم الرئيس سعد الحريري الذي حمل هذا اللقب أربعة أشهر ونصف الشهر.

أما التعزية الأخرى (ولا جميل للبنانيين فيها) فقد تكون في أنهم لم يجاروا بعد الرقم القياسي الذي استغرقه تشكيل حكومتي كل من بلجيكا والعراق عام 2010، أي تحديدا 541 يوما للبلجيكيين، و241 يوما للعراقيين.

ولكن المقلق في هذا السياق أن يصبح تشكيل الحكومات اللبنانية عقدة ملازمة للنظام الديمقراطي في لبنان، أو ما تبقى منه، منذ أن أخلّ السلاح غير الشرعي بالمعادلة السياسية في الداخل، ودخلت قوى إقليمية على خط التكليف والتأليف واتسع، بموازاتهما، الشرخ الطائفي والمذهبي.. ولا يزال يتسع.

أما الأكثر إثارة للقلق فهو تعويد اللبنانيين العاديين على دولة «الرؤساء المكلفين»، في ظل انهيار متواصل لهيبة الدولة، وتجميد يبدو متعمدا لصلاحيات السلطة التنفيذية، مما يبرر التساؤل عما إذا كان تعقيد تشكيل الحكومات اللبنانية مجرد ظاهرة عرضية أفرزتها الأوضاع المستجدة، داخليا وإقليميا، أم استراتيجية مدروسة لشل دولة «الطائف» توطئة للانقلاب عليها؟

وقد لا يكون من المبالغة الاستنتاج بأن تعقيد عمليات تشكيل الحكومات في لبنان عبر ربطها بشروط تعجيزية يتخطى، حاليا، لعبة توزيع الحصص الوزارية إلى التلاعب بنظام لبنان - وربما مصيره - في وقت توحي فيه أجواء التباعد المتزايد بين مكونات لبنان الاجتماعية، أو ما درج على تسميتها بـ«العائلات اللبنانية»، بأن هذه «العائلات» باتت اليوم أقرب إلى حالة طلاق من حالة زواج لم يستنفد أصلا منذ أن كان لبنان الاستقلال.

لا يخفى على اللبنانيين، في هذه الأيام الصعبة، ارتفاع وتيرة التشكيك في اتفاق الطائف ودستوره، بحيث أصبح هذا التشكيك جزءا لا يتجزأ من أدبيات جهات حزبية - مذهبية تتطلع إلى التفرد بالسيطرة على لبنان. وتزامن هذا التشكيك مع ما تثيره هذه الجهات من ممارسات تعقيد في وجه «حكومات الطائف»، منذ انتهاء الوصاية السورية السياسية والعسكرية على لبنان، يوحي بأن تجنبها (حتى الآن) الطرح العلني لمطلبها بتعديل دستور الطائف يدفعها إلى الالتفاف عليه، عبر فرض شروط «ثابتة» على آلية تشكيل الحكومات اللبنانية، مثل شرط «الثلث المعطل»، واعتبار أي معادلة أخرى للتشكيلات الحكومية مرفوضة حكما.

إصرار حزب الله والمستظلين بسلاحه على رفض المشاركة في أي حكومة لبنانية لا يضمن لهم «الثلث المعطل» (أي عمليا السيطرة على قراراتها) حوّل هذا المطلب إلى ما يشبه «العرف» الحكومي، وبات من الصعوبة بمكان على أي رئيس مكلف أن يتجاهله.. وإلا يبقى «رئيسا مكلفا» إلى أن يرضخ «للعرف».

قد يصح القول إن لبنان يعيش اليوم أزمة نظام أكثر مما يعيش أزمة حكم. ولكن ذلك لا يعفي «تيار المستقبل» من مسؤولية ما آلت إليه السلطة التنفيذية في لبنان، فقد دفعه تلهفه على رئاسة الحكومات اللبنانية، حتى إبان امتلاكه للأكثرية النيابية في البرلمان، إلى «التساهل» مع شروط حزب الله وحلفائه. وهذا التساهل شجع حزب الله وحلفاءه على التمادي في خرق دستور الطائف بشروط لا علاقة للدستور بها، وتجاوز تقاليد اللعبة البرلمانية في آن واحد.

قديما قيل: وعلى نفسها جنت براقش.