مع فائق المودة

TT

مال السوريون إلى صحبة أبو حيان التوحيدي حتى ظن الناس أن ذلك العراقي الفائق البؤس والموهبة والمعرفة والبلاغة، شامي من دمشق. سموا أولادهم باسمه. تناقلوا أقواله في كتبهم وخطبهم. عاملوه كأنه ثروتهم الوطنية وكأنما لم يكن لهم في الشعر والنثر سواه. وكانوا على حق في حق عبقري لم يعرف لنفسه حقا في حياته.

تفسر بعض المقالات، مما أكتب ويكتب سواي، تفسيرات شخصية. يقرؤها كل على هواه. ويظن بها مهوى ظنونه. إذا ذكرت بخيلا طافت في الأذهان صورة البخلاء. وإذا ذكرت خاملا فقل لنا أي واحد تقصد. والكاتب ليس نحَّاتا ولا رسَّاما لكي يبني ما يصور على شخص أو فرد. وليس من طبعي أن أرد الأذى بالأذى. وليس من الممكن أن أستنكر الثأر كل يوم ويأتي يوم أضعف فيه أمام ما استنكرت طوال الأيام. لذلك أعتذر عن تفرع الظنون وخصبها. لا شيء يستحق أن نبادل ما ليس فينا بما نحن فيه.

عدت في آساي إلى عمي أبو حيان. وإليكم ما يقول في أحوال الناس: «قد خاطر من استغنى برأيه. في التجارب علم مستأنف. عليك لأخيك مثل الذي عليك لك. الحق ظل ظليل. المودة قرابة مستفادة. في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال. من ركب العجلة لم يأمن الكبوة. الحسد أهلك الجسد. خير ما رُمت ما ينال. طلاق الدنيا مهر الجنة. من لم يقبل من الدهر ما أتاه طال عتبه على الدهر. الفقر أوحش من الغربة. لا استحسن الناس ما أمر به العقل، استقبحوا ما نهى عنه العقل. اغفر ما أغضبك لما أرضاك».

لو أكملت النقل كما أشتهي لحاولت عصر «الإمتاع والمؤانسة» في هذه الزاوية. فلا مجال. كم يشعرنا عمالقة الفكر والأدب والكتابة بمعنى عرف الله قدر نفسه. العلم بالتعلم سمعت الدكتور بري أبو المجد يقول: شيمة العلماء التواضع أمام ما يعرفون والدعة أمام ما لا يعرفون. أقول لابني دوما الدرس القاسي أكثر من حسن: إنه حسنة.

الادِّعاء جهل وإلاَّ سمّوه شيئا آخر. «التجارب علم مستأنف» قال عمي أبو حيان. أخطأ الأولون بالقول من علمني حرفا كنت له عبدا. الأصح من علمني أقل من حرف. إذا لم تتعلم كل يوم تزداد جهلا كل يوم. وإذا لم تعمل تزداد خمولا. ليس للحكمة تقاعد. ولا تعويض. الكسب في أن تتعلم لا أن تعلِّم. تواضع فالله لا يحب المختالين. أسوأ إساءة إلى نفسك أن تقدمها على نفسك. اهدأ، المحرور لا يستطيع الرؤية. وإذا رأى يرفض أن يميز.

لمن أكتب ذلك؟ لنفسي، أولا. الذي يرفض أن يتعلم يفسد حياته ويفسد عمله. أقسى وأفظع ما رأيته وقرأت عنه في حياتي هو الغرور. وجملة علي بزي شعاري منذ عقود طويلة: «قيل إن فلانا أصيب بالمرض قلت شفاه الله، وقيل أصيب بالغرور فقلت رحمه الله». تأملوا التاريخ. تأملوا الحاضر. تأملوا الأحكام والأنظمة والمهن، هل تعرفون مغرورا بقي واقفا؟