مدن للصيف

TT

تعودت في الماضي أن أكتب كل صيف سلسلة من الزوايا تحت عنوان «حكايات للصيف». كنت أقصد بذلك أن أجمع أو أستذكر ما يتلاءم مع جو الإجازات ويبعد عن جو النكد العربي. ثم توقفت في الأصياف التالية لسببين: الأول، أن النكد العربي ليس فصلا بل إنه قدر، ولأن المصيبة تصغر مع الأيام إلا البلاء العربي، فهو مثل التقدم عندما يصل بلاد العرب، يبدأ في الاتجاه إلى الخلف.

السبب الثاني أن زميلا سعوديا فتى غض الإهاب، استعار العنوان وطفق يكتب تحته، مع أنه بالكاد بلغ سن الاستماع إلى الحكايات، فكيف روايتها. كانت السلسلة ذريعة أو حيلة جرَّدني منها الفتى غض الإهاب. فقد كان في إمكاني أن أعدها مسبقا، وإذا ما حل الصيف وبان الشاطئ اللازوردي من قريب، عبر الشارع، لا يكون علي أن أبدأ نهاري بتأمل الكتب والصحف ونشرات الأخبار لاختيار موضوع آخر، على قاعدة: غدا يوم آخر، وإنما أبدأه مثل جاري في الطابق الرابع وساكن الطابق الأرضي: أي بتأمل البحر ومن عليه ومن بين شطّين وميَّه.

أعترف أنني أخذت فكرة المسلسل الحالي من ارنولد توينبي، مؤلف القرن الماضي. (وأيها الفتى غض الإهاب، على رسلك، فإننا لم نبدأ بعد... روق). وكان المثقفون العرب في الستينات قد اكتشفوا توينبي ففعلوا به ما فعلوه في الحقبة نفسها بمواطنه كولن ولسون صاحب «اللامنتمي». أي أدخلوه جميع مقالاتهم وجميع جلساتهم وجميع مقاهيهم، وعند الاضطرار نسبوا إليه ما لم يقل ولم يكتب ولم يقرأ، ولا يمكن أن يخطر لمن هو في بيئته أو ثقافته.

مجرد فكرة أخذتها من المؤرخ العظيم الذي كتب مقدمة لمؤلف جميل عن «المدينة الدولة» فقلت في نفسي، يا هذا تسلَّل إلى ذاكرتك وحاول أن تكتب في الخفاء «مدن الصيف» فسوف يصعب على الفتى غض الإهاب أن يحقق سطوه لأنه ما شاء الله، لم يتسن له أن يجمع من المدن بعد ما جمعت في ترحالك المزمن، من مدن وقرى ووجع ظهر. وكلما اتصلت بطبيب العائلة في بيروت أشكو له ألما في خاصرتي قال: في أي مطار أنت؟ أي شنطة حملت؟ أصدق في الجواب عن الشنطة وأكذب في المطار. لأنني كلما ذكرت مطار بلد جميل، قال بحنق من خلف مكتبه في الحازمية: تلفن عندما يصبح الوجع في الخاصرة اليمنى.

سوف أحاول اختيار المدن التي عرفتها، لا التي كتب عنها توينبي. وإلا سوف أجد نفسي أكتب لكم عن أور، كما كتب محمد الماغوط شعرا. المدن، كما عرفها الإنسان، نشأت في العراق بين المستنقعات. وكان السومريون ينقلون الحجارة من الداخل ليبنوا قلاعهم ومنازلهم وقصورهم.

لن أتناول في هذه السلسلة أهم المدن أو أجملها. سوف أكتب عشوائيا كما يعيش 22 مليون مصري. متذكرا أنني عرفت معظم المدن ما بين 1961 و1971: باريس، الكويت، بنغازي، القاهرة، دبلن، بومباي، جاكرتا، نيروبي، الخرطوم وسواها.