التنازع بين المثال والتاريخ.. قراءة في رؤية المعارضة البحرينية للإصلاح

TT

نشرت المعارضة البحرينية مؤخرا وثيقة سياسية على موقع «لؤلؤة البحرين الإلكتروني»، بعنوان: «وثيقة المبادئ والمصالح المشتركة»، مذيلة بأسماء الجمعيات الخمس المعارضة المشاركة في حوار التوافق الوطني الجاري في البحرين، ضمنتها الأفكار والمبادئ التي تعتبرها أساسية وتشكل المصالح المشتركة التي على أساسها يمكن بناء «عقد اجتماعي جديد». أو ما تسميه هذه المعارضة «إصلاحا حقيقيا ذا معنى»!

ويفضي النظر الموضوعي في هذه الأفكار والمبادئ بصيغتها المنشورة - أيا كان القصد من نشرها بموازاة حوار التوافق الوطني الذي دعا إليه ملك البحرين منذ فبراير (شباط) 2013 – يطرح كثيرا من التساؤلات حول حقيقة مواقف هذه الجمعيات ورؤيتها لسقف الإصلاح السياسي في البحرين، ومدى واقعيته وقابلية التوافق بشأنه، مع بقية مكونات المجتمع السياسي الوطني، بل إن هذا الطرح في علو سقفه يشكك في مدى رغبة الجمعيات المعارضة في الوصول إلى حلول توافقية، من خلال هذا الحوار للخروج من الأزمة السياسية المستمرة منذ فبراير 2011، إذ يبدو الطرح في مجمله أقرب إلى تحد «سياسي» على الدولة وما قامت عليه من ثوابت.

فمن حيث المضامين والمرجعيات تبدو الوثيقة في بنيتها اللغوية، وفي مرجعياتها الفكرية، مصاغة وفقا للمرجعية (الليبرالية) ضمن سياق نظام جمهوري، فالمبادئ التي تضمنتها هذه الوثيقة تبدو من حيث طموحها وسقفها أعلى مما هو موجود في بعض النظم الديمقراطية في منابتها الغربية العريقة (وللمفارقة، فإن مركز ثقل هذه المعارضة هو جمعية الوفاق الإسلامية، وهي جمعية دينية بتركيبة طائفية مغلقة وبقيادة دينية معلنة).

كما أن الوثيقة تتضمن تركيزا على المرجعيات الدولية من حيث القيم والمبادئ والآليات، ومن ذلك الحديث عن الإشراف الدولي على جميع الجوانب السياسية والدستورية في مرحلة الحوار أو (الإصلاح الديمقراطي)، بعيدا عن مفهوم ومعنى ومحتوى الإصلاح السياسي القائم منذ عام 2001، ومرجعياته المستقرة، وحدودها المعقولة والمتوقعة، وكذلك «الثوابت الوطنية» المستقرة في ضمائر الناس، فجميع الإحالات في الوثيقة تتم وفقا لمرجعية الأمم المتحدة والعهود الدولية فقط، حتى إنه يتراءى للقارئ لهذه الوثيقة أننا بصدد إنشاء كيان جديد من العدم (نذكر هنا أن بعض أقطاب المعارضة قد نادى صراحة إبان الأزمة بمجلس تأسيسي وطني للبدء من الصفر)، والأخطر من ذلك أنه يتضح في متن هذه الوثيقة وفي هوامشها تواتر الإحالات إلى الخارج، من خلال الحديث عن «مراجعة قرارات الدولة من خلال جهة خارجية مستقلة».

أما على صعيد الصياغة السياسية للوثيقة، فهنالك إحالة على «أفضل الممارسات الديمقراطية في العالم» وأنه (بالتالي) لا خلاف حول المبادئ والرؤى التي تبشر بها على الصعيد الدولي والإنساني، فالتماهي هنا هو مع المطلق، وليس مع الواقع، مع المثال وليس مع التاريخ، فكأنما الهدف في النهاية هو كسب تعاطف المجتمع الدولي كأولوية معادلة لقوة الدولة والمجتمع المحلي، مع الإعراض تماما عن معالجة إشكاليات وتطلعات ورؤى الداخل وتناقضاتها وتوازناتها الواقعية وامتداداتها الإقليمية، إذ يبدو الداخل غير مأخوذ في الحسبان في هذه الوثيقة، بما يعزز غياب الواقعية السياسية في مشروع المعارضة في البحرين في مستوى التطلع وسقف «الإصلاح» في اللحظة التاريخية الراهنة..

ولعل اللافت أيضا هو ذلك الإلحاح الغريب على ضرورة دمج العامل الخارجي في حل إشكاليات الداخل على أساس أنه من الصعب إنجاز تطور ديمقراطي ناجع من دون وجود دور حاسم للعامل الخارجي، بحيث تسهم المساندة الخارجية «الصديقة» في نشر الديمقراطية وترسيخ احترام حقوق الإنسان، دون التنبه إلى أن هذا النوع من التدخل لا يمكن أن يأتي في سياق مجرد من الأطماع والضغوط، ولذلك يظل الاستنجاد بالخارج واستحضاره ليكون طرفا أو عاملا حاسما في حسم الصراعات السياسية المحلية عملية لا أخلاقية وغير حصيفة من الناحية السياسية، وتحيلنا مباشرة إلى التجربة العراقية سيئة الصيت.

إن تفحّص ما ورد في هذا المشروع، يفضي إلى نتيجة واحدة حيثما حللتها، وهي الهدم الكامل لأسس الدولة القائمة والممتدة على مدى أكثر من قرنين من الزمان، بشرعية الحكم فيها، وبمؤسساتها الدستورية وبإجماع شعبها على القيم والمبادئ الجامعة في ميثاق العمل الوطني الشهير، الذي أجمع فيه شعب البحرين بنسبة 98.4 في المائة على القيم والثوابت وعلى أسس الإصلاح السياسي منذ عام 2002.

وبهذا المعنى، فإن المطلوب صراحة هو الالتفاف على هذا الإجماع السابق، باعتباره عقدا اجتماعيا يؤصل لشرعية النظام السياسي، والتأصيل لـ«عقد اجتماعي جديد»، وفقا للمرجعيات والرؤى التي تطرحها المعارضة في هذه الوثيقة أو في «وثيقة المنامة» من قبلها، وهذا يعني إلغاء كل شيء تقريبا و«الانقلاب على الدولة بالمطلق»، فلا توجد إشارة واحدة لشرعية الحكم ولا لطبيعته ولا إلى الملكية الدستورية القائمة، التي فتحت الباب على مصراعيه للتجربة الديمقراطية الجديدة منذ عام 2001، ولا إلى الدستور أو الميثاق أو المؤسسات الدستورية والإشكاليات القائمة وكيفية حلها ومعالجتها ضمن سياقها المحلي والإقليمي، فضلا عن استبعاد المرجعيات الأساسية المستقرة وتقليص جميع ما يتعلق بهوية البحرين العربية وانتمائها إلى الوطن العربي: «استبعاد الفقرات الواردة في دستور مملكة البحرين 2002، مثل (شعبها جزء من الأمة العربية)، (إقليمها جزء من الوطن العربي الكبير)، (لغتها الرسمية هي اللغة العربية)، (البعد الخليجي).. إلخ»، فقد جرى الشطب على هذه العبارات نهائيا والاقتصار على صياغات عامة حول هذه الهوية، مع أنه قد جرى تفصيل كل شيء تقريبا.

أما من حيث انعكاس ما ورد في هذه الوثيقة على الحوار الوطني المتعثر، فيمكن ملاحظة - ومن دون عناء كبير - أن جزءا من مضمون هذه الوثيقة قد جرى طرحه بالفعل، بإلحاح وإصرار، مع محاولة فرضه على أجندة الحوار، كالمطالبة بوساطة أو خبرة دولية، تشرف على مخرجات الحوار وتنفيذه، هذا فضلا عن التطابق شبه التام بين أهم مفردات هذه الوثيقة ووثيقة المنامة التي سبق للمعارضة إصدارها، والنقاط المعلن عنها في الحوار كنقاط مرجعية للمعارضة المسماة «النقاط التسع».

ويقود هذا التطابق إلى التأكيد على إصرار المعارضة على المضي قدما نحو تحقيق مطالبها بشكل كامل، دون الأخذ بعين الاعتبار مقتضيات التوافق الوطني مع بقية مكونات المجتمع السياسي، الذي لا يتفق مع المعارضة في سقف المطالب، ولا في نوعية الإصلاح السياسي ولا في مداه، ولا في أولوياته، ومع ذلك يؤمل أن تفضي المناقشات والحوارات الجارية حاليا - مهما تعقدت وتعثرت - إلى تعزيز النزعة الواقعية والخروج من عالم المثال إلى توافقات وطنية واقعية حول حلول يمكن تبنيها من أغلبية المواطنين، وتكون معبرة عن «الوسط» الجامع، بما يساعد في النهاية على التقدم نحو المستقبل المشترك، بعيدا عن النزعات الإقصائية والمثالية السياسية والاستقطاب الذي بات يشق المجتمع.

* كاتب وإعلامي بحريني