هل هي الديمقراطية؟

TT

لست أعاني من الجوع إلى الديمقراطية، فقد أكلت أطنانا منها في القرن الماضي قبل سقوط سور برلين. ففي مرحلة الحرب الباردة بين الكتلتين الأعظم كان العالم ينقسم إلى قسمين؛ الأول ديمقراطي اشتراكي، والثاني إمبريالي وغد لا يعرف الديمقراطية الحقة، وبالتالي تعيش شعوبه في تعاسة دائمة.

وانهارت المنظومة الشيوعية، واتضح لي أن الديمقراطية عملة يمكن تزييفها بسهولة، بل وبدأتُ أنظر بعين الشك لمن يكثرون من استخدام هذه الكلمة. ولكن ذلك لا يدفعني بالطبع للاستغناء عنها، بل لإعادة التفكير في دور الدولة في حماية الفرد والمجتمع، في غياب دولة قوية، كل الشعارات السياسية المرفوعة ليست أكثر من أكاذيب. وبقوة الدولة أقصد تلك الدولة القادرة على إنفاذ قوانينها لحماية مواطنيها وإتاحة أكبر قدر من الحرية لهم ليبدعوا ويعملوا وينتقلوا ببضائعهم وإبداعاتهم من مكان لآخر سالمين. ولأنها مسؤولة عن حماية حقوق مواطنيها، لذلك تكون هي المحتكر الوحيد للعنف. مؤسسات الدولة وحدها هي التي من حقها أن تقوم بتفتيشي في الطريق العام أو بتفتيش بيتي مستندة في ذلك إلى أوامر من النيابة العامة. الدولة فقط من حقها أن تحاسبني على بناء دورة مياه في الشارع بغير ترخيص. ومن حقي على الدولة أن تبعد عني أي شخص قرر إزعاجي لأوهام في عقله. وعندما تتهاون الدولة في الحفاظ على حقوقي كمواطن فرد تكون قد تنازلت عن حقها في الوجود. ولذلك أنا لست على استعداد لتضييع وقتي في الحديث عن الديمقراطية وما يهددها وما يقويها، حدثني عن قوة الدولة وفهم رجالها لدورهم. حدثني عن الحرية التي يستحيل وجودها بغير بشر ينعمون بالحرية في حماية القانون. كما أن الحرية بدورها ليست حرة إلى الدرجة التي يتصورها البعض. هي أيضا تفقد معناها وصفتها عندما يستخدمها بعض الناس للقضاء على حرية الآخرين. وهنا مرة أخرى يأتي دور الدولة ودور رجل الدولة.

في اللحظة التي يفقد فيها مواطن واحد حماية القانون في مجتمع ما فاعلم أن المجتمع كله قد فقد حريته وفقد حقوقه القانونية. وفضيلة الثورات الوحيدة هي التخلص من أنظمة ديست فيها حقوق البشر بالأقدام، ليس بدافع من الغضب وحده، بل بدافع من رغبة قوية جماعية في الحصول على مجتمع يحميه القانون للحفاظ فيه على حقوق الإنسان. ولكن الثوار لا يعملون على إزالة دور الدولة وإلا حصلوا على مجتمع همجي ينفذ فيه كل مخلوق رغباته المريضة في إذلال البشر.

ليس من حق مخلوق اقتطاع جزء من عاصمة بلاده وتحويله إلى غابة صغيرة، ومن يرون أنه من الممكن التعامل مع ذلك بإرجاء اتخاذ الأمر بشأنه، يتصورون أن أفعال البشر الجانحة تتوقف عند حد. بدافع من الملل سيحتل هؤلاء الناس أماكن جديدة عندما تتاح لهم الفرصة لذلك. غدا تنزل من بيتك فتواجه بحاجز طيار يطلب رجاله تفتيشك والويل لك إذا كنت تعمل صحافيا.