مدن الصيف : كليوباترا وروز اليوسف

TT

لست أحبذ كثيرا ثقافة الماضي (كان وأخواتها)، ولا أنظر إلى التاريخ إلا رواية؛ جميلة أو نبيلة أو مأساوية. طبعا هذا لا يعني أنني أحبذ طالبان وهدم الآثار الدالة على مراحل تاريخية ومعينة، أو أنني أدعو إلى إحراق تحف «اللوفر»، أو يطربني بقر بطون السياح في أسوان، ومن ثم اغتصاب الألمانيات العجائز منهن. لكن بعض المدن مفكّرة أو مدونة أو رواية تاريخية جميلة. تخيلها من رواية؛ يأمر الإسكندر ببنائها وهو في عز مجده الحربي. كم كان عمره وهو في عز مجده الحربي؟ 25 عاما. 90 في المائة ممن هم في الـ25 عاما اليوم يبحثون عن عمل. ونصفهم عن أي عمل. بعض الحضارات رأت فيه تجليا من تجليات الخَلق. إننا لا نتحدث هنا عن شاعر سحر فرنسا قبل أن يبلغ الـ30، بل عن قائد دان له الجزء المعروف من أرض البشر، يابسة ومحيطات.

أدرك جنرالاته، البطالسة، أهمية الإرث الذي تركه لهم في هذا الموقع الجميل، فاعتنوا به. كليوباترا كانت آخر حفدائهم. تحولت الإسكندرية معها من مجد إلى عشق، ومن منارة تضيء المتوسط أمام السفن إلى سفن تملأه حرابا. العرب نقلوا حياة مصر من الإسكندرية إلى القاهرة، من المتوسط إلى النيل. لكنها ظلت حتى الخمسينات مرفأً متوسطيا يزدهر فيه اليونانيون (الخواجة بيجو) والإيطاليون والفرنسيون، وأيضا اللبنانيون، الذين لم يكن بينهم وبين الإسكندرية سوى 24 ساعة. فيها أنشأوا «الأهرام» جريدة اقتصادية بادئ الأمر.. الفتاة الطرابلسية فاطمة اليوسف، التي سوف تصبح أشهر صحافية في وادي النيل، تحت اسم روز اليوسف، أو «روزا» للتحبب. هكذا كانت مصر تعيد صياغة المهاجرين الفقراء؛ من فتاة لاجئة إلى سارة برنار الشرق إلى صحافية يعمل عندها عباس محمود العقاد، ويخافه النحاس باشا. وعندما قيل لها إن العقاد لن يكتب في مجلة صاحبتها امرأة، قالت: «سوف يكتب عندما يعرف أنها تدفع راتبا قدره 80 جنيها».

كان عدوان السويس نهاية الإسكندرية كمدينة متعددة. شعر المصريون بالألم من تعاطف الأوروبيين مع إسرائيل وبريطانيا وفرنسا. ونشأت في نفوسهم مرارة شديدة من جيران الأمس، يصورها أندريه أسيمان في كتابه «الخروج من مصر»، وهو صياغة روائية جميلة على طريقة مارسيل بروست، الذي يدرِّسه أسيمان في جامعة نيويورك، لكنها أيضا صياغة خبيثة حيال العرب، وإن كانت في قالب ساخر من اليهود. عندما زرت الإسكندرية، منتصف السبعينات، لم يكن قد بقي شيء من ألَقها التاريخي، وكان «النادي اللبناني» قد أصبح مثل منزل أثري يرتاده نفر قليل من أحفاد المهاجرين الأوائل. وكان قد بقي بعض الحناطير للسياح، ولكن السياح يومها ما عادوا يترجلون من البواخر إلى مدينة هرمة، يلح صبيانها الفقراء على بيعك كل ما لست في حاجة إليه. ثم جاء المدينة محافظ أعاد إليها شيئا من رونقها.

إلى اللقاء.