أزمة الشباب الرقمي.. من التطرف الديني إلى الفكري!

TT

يقر العقلاء الآن، حتى من كانوا من أنصار ما سمي «الربيع العربي»، بأن المناخ الفكري السائد الآن بعد مرور هذه السنوات الصعبة؛ هو مناخ «أزمة» على مستوى الأفكار والممإرسات، والشباب هم وقود هذه الأزمة وأكثر من يحترق بها بسبب حالة غياب الوعي، فالثورات - الاحتجاجات الشعبية على اختلاف مواقعها ونتائجها ومآلاتها كانت تعاني أزمة قيادات فكرية، ثم لاحقا انسحبت إلى الظل النخب غير السياسية هربا من مشنقة التأييد أو الوسم بدعم الاستبداد، وبقيت النخب السياسية العاجزة التي تعاني حالة ارتباك شديد بسبب الفجوة بينها وبين جيل الشباب.

وكما يقال، فإن الأرقام لا تكذب، وهي تؤكد أن الشباب هم المكون الأساسي لما يحدث الآن من فوضى، رغم كل أدبيات «مديح الشباب والجيل الجديد»، جيل التقنية، فإن المتابع لما يطرح يدرك أن التيار العريض مما يكتبه الشباب ويطرحونه يعاني «أزمة محتوى» شديدة، وإن كانوا مبدعين على مستوى الأدوات ووسائل الانتشار، والحشد الرقمي الذي بات مرتعا للمحتوى المبتسر والرديء والمشوه وحتى المزور.

وإذا كان سكان العالم العربي قرابة 400 مليون، فإن نسبة الشباب دون سن 25 تعادل 70، والذين يستخدمون الإنترنت من مجمل الشباب قرابة 84، منهم من يمكث على الشبكة أكثر من خمس ساعات يوميا ونسبتهم تزيد على 40%. ولك أن تتخيل أن «محتوى» ما يتم تداوله الآن في أجواء الأزمات هو محتوى بالدرجة الأولى متطرف فكريا بعد أن كان في سنوات مضت محتوى متطرفا دينيا، فمرحلة انحسار الصحوة الدينية وصولا إلى ما بعد 11 سبتمبر (أيلول) وأحداث الإرهاب والتطرف التي عاشتها المنطقة - كانت الذروة في إنتاج خطابات متطرفة دينيا، استبدلت بالتفكير التكفير، ثم جاءت الثورات بما حملته من «نقمة» شبابية على الأوضاع المزرية، فاستبدلت بخطابات التطرف الديني خطابات تطرف فكري وسياسي بنفس الأدوات، ويا للغرابة حتى من نفس المصادر! على سبيل المثال، يمكن أن نلحظ انزياح خطابات الحاكمية والخلافة لصالح شعارات جديدة مفرغة من جوهرها كالعدالة الاجتماعية والديمقراطية والتعددية السياسية التي يتم التعامل وفق منطق الإقصاء والطرح الشمولي بنفس الدرجة، لكن عكس الاتجاه، فالخلط الذي كان يمس قضايا ومفاهيم تتصل بدار الإسلام والموقف من الآخر والولاء والبراء، تم استبدال مفاهيم مدنية بها، لكن بمضامين متطرفة كالنضال السلمي والحقوقي ومفاهيم الاعتصام والشرعية.. إلخ.

والحال، أن مسألة الشباب من المسائل الملحة جدا على أولوياتنا في المرحلة المقبلة، بغض النظر عن مآلات الوضع السياسي الذي يعاني سيولة تجعل صناع القرار يغفلون عن براميل الوقود الشبابي التي تنتظر فتيل التطرف في أي لحظة ليشعلها، صحيح أن مسألة الشباب يجب ألا تتحمل الأنظمة السياسية كل العبء، إلا أن الوعي بأهميته سيجعل من السهل إطلاق مبادرات ترعاها مؤسسات القطاع الخاص والجمعيات التطوعية والنخب الثقافية أيضا والعلماء الشرعيين المعتدلين ممن يحظون بثقة هؤلاء الشباب.

دور الخطاب الديني المعتدل غائب في هذه المرحلة، والمضامين السياسية التي يطرحها شباب اليوم هي مضامين برافعات دينية تحتاج إلى إنتاج خطاب ديني معتدل أكثر من «وعي سياسي»، لا سيما أن دخول تيارات متطرفة كانت منحازة إلى خطابات «القاعدة» والإرهاب من بوابة السياسة زاد المسألة تعقيدا والتباسا.

والأمر لا يتصل بشباب مناطق الثورات، حيث في ظل انحسار منسوب الوطنية وسلطة الدولة القطرية ضمن جغرافية الشباب الرقمي؛ فإن الوضعية الجديدة لفئة الشباب خارج بلدان الثورات، ومنها بلدان الخليج، ليست أحسن حالا، فهناك علل وأمراض يمكن رصد نموها بشكل مطرد إذا ما تجاوزنا التطرف الديني والإرهاب، ويمكن رصد خطابين في هذا السياق، كلاهما غير مطمئن: الأول خطاب يمثل حالة الارتداد إلى مفاهيم مغالية عن الذات والقبيلة والتحيز المناطقي والطائفي، والآخر يقع في براثن التطرف الفكري في تصور مفاهيم الدولة والسلطة والقضايا السياسية العامة، ذات مرة قال ميلان كونديرا: «من الأفكار ما يشبه جريمة اعتداء». بعيدا عن التشاؤم المحبط، جولات يسيرة في منصات الإعلام الجديد وأحاديث الشباب ومتابعاتهم للأحداث السياسية تؤكد أننا بإزاء خطر هذا النوع من الأفكار المدمرة، وربما كان إعلان وزارة الداخلية السعودية الأخير عن معرفات تنتمي إلى «القاعدة» تحظى بوجود كثيف في حديقة «تويتر» الملغومة أكبر دليل على خطورة هذه الأزمة.

[email protected]