مدن الصيف نيروبي : السائق وبنات خالاته

TT

من أجل السفر إلى نيروبي شتاء عام 1964 كان لا بد من السفر إلى القاهرة فالخرطوم في يوم الاستقلال واحتفالاته في أجمل مدن أفريقيا الشرقية. قبل السفر اتصلت بجميع زملائي الذين سافروا إلى أفريقيا من قبل، أسألهم كيف يحتاطون للثعابين في الشوارع والقرود في الفنادق. لكن عندما وصلت لمطار نيروبي وجدته أكثر حداثة من مطار بيروت، وعندما وصلت إلى فندق ليوستاتلي وسط المدينة وجدته في فخامة فندق فينيسيا، وعندما قمت بجولة في المدينة رأيت للمرة الأولى في حياتي المركز التجاري، أو «المول».

بعد الخرطوم، كانت نيروبي تبدو، في أكثر نواحيها، مثل بلدة أوروبية قديمة بدأت تصلها المباني العالية والحديثة. وكانت للقادم من بيروت رخيصة على نحو لا يصدق. ولذلك قررت أن أستبقي معي بصورة دائمة سائقاً أفريقياً كثير الدماثة وطليق الإنجليزية. عندما عدت إليه في المرة الأولى، رأيته جالسا في المقعد الخلفي ومعه امرأة، ترجلت على الفور وعاد هو إلى مقعده معتذرا، قائلا: إنها ابنة خالته وقد رآها صدفة هنا. جاء في اليوم التالي وانتظر أمام مقهى الفندق، ولما جئته لنذهب إلى أحد الاحتفالات، وجدته في المقعد الخلفي ومعه ابنة خالته. لكنها كانت ابنة أخرى، لخالة أخرى. وطوال أسبوع تغيرت الخالات وبناتهن في كل منطقة من مناطق العاصمة المبتهجة باحتفالات الاستقلال. كانت الاحتفالات بألوان الغابة وفرحها. ومعنا في الفندق حل زعماء القبائل بأثوابهم التقليدية. والثوب هنا بمعنى جلود النمور مزيَّنة بريش الكواسر. وفي الاحتفال الكبير تجمع الآلاف يرقصون أشباه عراة ويهزجون ويرددون إيقاع الغابة وصوت صفير البلبل.

جلس ألوف الضيوف على بنوك خشبية دائرية مثل درج المسرح. وفوجئت إذ رأيتني إلى جانب السفير أحمد فتفت، مندوب لبنان لدى الجامعة العربية، وممثل الدولة في الاحتفال. كنت قد تعرفت إلى السفير الشاعر على الطائرة ثم صدف أن عدنا إلى القاهرة على الطائرة نفسها. أما على المقعد أمامنا فكان يجلس ممثل سوريا، وزير خارجيتها، الدكتور صلاح البيطار، بوقاره المشهور.

لكن وسط الآلاف الذين يتساوون على المقاعد الخشبية اللولبية، صارت أهمية الحضور ثانوية، وأن المشهد غير العادي هو كينيا كلها ترقص بعنف وتغني برقة وتهتف خلف زعيمها وبطل حريتها جومو كينياتا: هارامبي! كان كينياتا (نجله، اوهورو، هو الرئيس الحالي) خريج أشهر جامعات لندن، وفيها، مثل نهرو، تعلم النضال ضد الاستعمار. لكنه، بعكس نهرو، لم ينقل معالم النظام. في مقهى الفندق سألت مضيفة من «خطوط أفريقيا الشرقية» إن كانت سعيدة بالاستقلال فأذهلني جوابها: لا. على الإطلاق. هؤلاء البريطانيون يغادرون قبل أن يعدونا لأي شيء.

لم أعد إلى نيروبي، لكنني كنت دائما أسأل عن أحوالها الدكتور منصور خالد، وزير خارجية السودان، الذي أصبح مندوب الأمم المتحدة هناك، وكل مرة كان جوابه أنها أسوأ من الماضي. أهلك كينيا الفساد المريع. واختار كينياتا حوله رجالا لا يليقون بالحرية التي جاء بها. إلى اللقاء.