خطورة الـ«أنا» وشرورها.. وطنية أو دينية

TT

معلوم للناس أجمعين أن قدرا من الأنانية يتحكم في سلوكهم بعضهم تجاه بعض. لا أحد يجادل في ذلك. من هنا منشأ أمثال عدة لها حضورها في الثقافة الجمعية على اختلاف مشاربها. بينها، عند العرب: «ما علي من غيري.. يا رب نفسي». وعند الإنجليز، مثلا: «أنا، أنا، أنا». تهذيب «الأنا» يتطلب تحجيم شراهتها قبل تضخمها فتطال شرورها الأبرياء من الناس، الذين لا يملكون التحكم في «أنا» غيرهم، خصوصا من يحكم على أساس «أنا ومن بعدي الطوفان»، وهذا مبدأ أناني، نزاع للشر، وما هو بحكر على قوم، بل هو حي يعمل ويتنفس سموما فتكت، وتفتك، بأقوام في الثقافات كافة.

لا أحد يجادل أن البشر نزاعون للخير. الناس بطبيعتهم، مجبولون على النفور من كل شر. وطالما أن قدرا من «الأنا» يوجه الفرد نحو فعل الخير، كما في التفاخر بتبرع ما، على سبيل المثال، فلا ضرر في ذلك. خطورة «الأنا» وشرورها تظهران لكل ذي بصر، عندما تحكم فكر مجموعة من الناس، ترى أنها وحدها تريد مصلحة المجتمع، بينما هي في واقع الأمر، تعمل على تسييد «أنا» رؤيتها تلك، بصرف النظر عن الوسيلة أو الثمن. خطران يبرزان هنا، أخطرهما تقديم منهج «الأنا» على مصلحة الآخرين باسم الدين. الثاني لا يقل خطورة، إنما من الأسهل أن تحاجج الذين يلبسون «أنا» أحزابهم أثواب الوطنية، أيا كانت قبعتها الفكرية.

هنا تدخل مصر من أوسع الأبواب، أعني باب اتساع تأثير دورها، وانعكاس ما يجري فيها، على ما يتجاوز حدودها الجغرافية، إلى عمق جوارها الإقليمي ومحيطها الأبعد. لم يحصل أن ظل إشعاع مصر الحضاري، أو رخاؤها الاقتصادي، حبيس ضفتي النيل. ولم يحدث أن أي خلل أصاب فعلها السياسي، أو ميزانها العسكري، لم يؤثر بالسلب على العالم العربي ككل، وكذلك على وزنها الأفريقي. محزن أن نرى مصر تتمزق، وتكاد تنزلق نحو حرب أهلية، نتيجة تنافس «الأنا» بين قبائل ساسة يزعم كل منهم أنه وحده يدرك مصلحة المصريين. صحيح أن أنفس القاهرة تزيد على عشرين مليون نفس، وأن الحياة اليومية تمضي فيها على نحو اعتيادي، وأن المعتصمين يعدون بعشرات الآلاف، إذا صح التقدير، لكنْ صحيح أيضا أن أي تدفق للدم المصري بأيد مصرية، يعني فتح جرح لن يكون من السهل تضميده قبل ردح من الزمن.

ألم يكن ممكنا تجنيب أهل مصر هكذا تمزق؟ بلى، كان ذلك ممكنا لو أن الطرف الأقوى في المعادلة، آنذاك، استجاب لصوت العقل، واستعان بالحكمة. ذلك الطرف يتمثل في قيادة جماعة الإخوان المسلمين. كانوا هم الأقوى حينئذ، وكانت الصورة في منتهى الوضوح، بلا أي تشويش تحتاج إزالته إلى رتوش. كل المطلوب من المرشد العام، وبقية الطاقم، كان النزول من أبراج الوهم بأن الشعب المصري مجمع على استمرارهم في السلطة. بدل ذلك، أصر قادة «الإخوان» على أن حكمهم الآتي عبر اقتراع حر - وهذه حقيقة - يجب أن يستمر، حتى لو أن الأغلبية الضئيلة التي أوصلتهم، تراجعت وسحبت ثقتها من صندوق الجماعة، رغم أن عمر التجربة لم يزد على سنة واحدة. هذه أيضا حقيقة، لكنها لم ترق لقيادة «الإخوان»، ولم ترق في تقييمهم إلى درجة توجب الاحتكام للشعب، والقبول بالاستفتاء وما سينتهي إليه من نتائج. لو حصل ذلك التفهم، لوفرت قيادة الجماعة على نفسها، ثم على جموع المنتسبين إليها، والمتعاطفين معها، وبالنتيجة كانت ستوفر على مصر كلها، نتائج كل هذا الاحتقان، الذي لا يعرف أحد، على وجه التحديد، إلى أين ستقود نهاياته؟

كما هو معلوم، الضربة القاضية في الممارسة الديمقراطية، تعني الفوز بالحكم من دون إلغاء الخصم. حتى الآن يبدو أن مدرسة الربيع العربي تخرج ديمقراطيين يفضلون الأخذ بمنهج الإعدام السياسي للآخرين، لا الاكتفاء بمجرد الإقصاء، لأن في ذلك ما يرضي «الأنا»، حتى إذا تطلب الأمر الزج بالدين، أو التضحية باستقرار الوطن ومستقبله. منشأ سلوك هؤلاء، في تقديري، دخول المتصدرين واجهة قيادة ثورات العامين الماضيين من المنتمين فكرا إلى مدارس خمسينات القرن الماضي، لا يزالون بحاجة إلى تعلم معنى القبول بالآخر والتعايش معه.

[email protected]