الحاجة إلى إعادة تعريف السرطان

TT

المصطلحات الطبية عالم آخر في دنيا الطب، وكثير من تلك التي يتم استخدامها اليوم هي نتاج تسميات مرت عليها، ليس عشرات السنين فقط، بل قرون، ونتاج اكتشاف أشخاص أو ارتباط بأمور وأحداث معينة قد لا يكون لها علاقة البتة بالأمور المستخدمة في وصفه. وهذا الأمر ليس فقط ما يثير الالتباس اليوم في شأن المصطلحات الطبية عند استخدام الأوساط الطبية لها، أن هناك أمورا أخرى تتعلق باستخدامها من قبل عموم الناس وقدرتها على إعطاء المعلومة الطبية المقصودة بصورة مفهومة وسليمة وتتطابق مع الواقع المراد وصفه.

وبعيدا عن التسميات المشتقة بشكل مباشر من أسماء علماء اكتشفوا أمراضا أو ساهموا في ذلك، مثل «باركنسون» و«داون» وغيرهم العشرات، وبعيدا عن مصطلحات تفرع الطب في استخدامها ويحتار المرضى في وصفها كألم الذبحة الصدرية أو ألم المغص الكلوي أو ألم حرقة الفؤاد وغيرها، هناك أسماء أمور أساسية مثل السرطان والالتهاب وغيرها، مما لا يزال ثمة إشكاليات حولها.

دعونا نأخذ تسمية «السرطان» cancer كمثال. في عدد 29 يوليو (تموز) من مجلة الجمعية الطبية الأميركية Journal of the American Medical Association تناولت لجنة من الخبراء بتكليف من المؤسسة القومية الأميركية للسرطان U.S. National Cancer Institute موضوع استخدام «كلمة» سرطان، وأفادت بأن ثمة «حاجة مُلحّة» لإعادة تعريف هذه الكلمة الطبية، وذلك لمنع «فرط التشخيص» overdiagnosis و«فرط اللجوء إلى المعالجة» overtreatment لحالات من الأورام التي غالبا ما تكون بطيئة النمو وغير فتّاكة non - lethal وبالتالي غير بالغة الضرر على صحة المصاب بها. وقال الخبراء: «التطبيق الواسع لبرامج الكشف المبكر عن السرطان Cancer Screening Programs لاحظ تشخيص عدد كبير من أنواع الأورام التي من غير المتوقع أن تتطور إلى مراحل فتّاكة، والتي تُصنف على أنها خاملة indolent.

وبالمقابل، قالت لجنة الخبراء: «غالبية المرضى لا يدركون معنى هذا التمييز الطبي، مما يجعلهم عند سماع كلمة سرطان يتجهون مباشرة نحو استحضار شبح عملية قاتلة لا محالة». وأضافت: «السرطان يتخذ مسارات متعددة، وليس جميعها سيتطور نحو الانتشار في أرجاء الجسم والتسبب بالوفاة، بل ثمة أنواع منه خاملة وغير فتّاكة، ولا تتسبب بأي أذى طوال حياة المرء».

وأشار الباحثون إلى أن باعث هذه الحاجة الملحّة اليوم إلى إعادة تعريف السرطان هو التطور المذهل جدا خلال العقود الماضية في وسائل الكشف الغاية في التعقيد، مثل «ماموغرام» (أشعة) تصوير الثدي ومناظير الجهاز الهضمي وتحاليل سرطان البروستاتا وغيرها، مما بشّر بأن يكون وسيلة لإنقاذ حياة الملايين عبر الكشف في وقت مبكر عن الأورام. ولكن قصة فحوصات السرطان تحولت بشكل مختلف، على حد قول الخبراء، لأن الكثير مما تم اكتشافه تبين أنه من النوعيات الخاملة وغير الضارة.

وعلى الرغم من أنه تم بالفعل إنقاذ حياة الكثيرين بالكشف عن الأورام وعلاجها، فإنه في الوقت نفسه ارتفعت معدلات اكتشاف الأورام غير الضارة خاصة في شأن الثدي والبروستاتا، إلا أن الخبراء استدركوا بالقول إن مناظير الجهاز الهضمي لا تزال مفيدة جدا، لأنها تكشف أنواعا من الأورام البطيئة النمو والقابلة للتطور نحو حالات مهددة للحياة. وخلص الخبراء إلى القول: «إن استخدام كلمة سرطان يجب أن يقتصر على وصف الأورام التي من المحتمل أن تتطور إلى حالات فتّاكة، إذا لم يتم معالجتها، أما غيرها من الأورام فيجب تصنيفها إلى درجات أقل. وعلى الأطباء والمرضى وعموم الناس ملاحظة أن فرط التشخيص واقع فعلي نتيجة لفحوصات الكشف المبكر». وهو ما علق عليه الدكتور هارولد فارمس مدير المؤسسة القومية للسرطان بالولايات المتحدة بالقول: «لا تزال ثمة مشكلة في الإقناع بأن ما تم اكتشافه غير خبيث وغير مُميت، وهذا لا يقتصر على عموم الناس بل حتى على بعض العلماء».

والقصد هنا ليس تهوين شأن الاهتمام بالأورام السرطانية ولا بضرورة معالجتها، بل هو الرسالة التي تُعطى للمصاب وكيفية تعامله معها، والأهم كيفية تحقيق حماية حياة الناس دون التسبب بأي اضطرابات حياتية لا جدوى منها ولا مُبرر لها لأولئك المصابين. وعموم الناس تعلق بأذهانهم معاني العبارات الطبية وفق ما شاهدوه في حياتهم أو سمعوا عنه، وفي كثير من الأحيان لا تكون مصادر المعلومات تلك دقيقة في توصيل المقصود الطبي، الذي يبني عليه المرء نوعية التعامل مع حالته الصحية. إن واقع المصطلحات الطبية يجب أن يكون وسيلة كلامية تُستخدم لتوضيح المقصود، الذي يعاني منه المرء أو الذي تم تشخيص إصابته به، ولأن تعاون المريض أساس في إتمام عملية العلاج، وما لا يتم الواجب به فهو واجب، فإن تبسيط ووضوح كلمات المصطلحات الطبية أمر ضروري، وكذلك استخدامها من قبل العاملين في الأوساط الطبية حال حديثهم مع مرضاهم.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]