مدن الصيف وابنة خالتي الفرنسية

TT

ما هذه المهنة التي اسمها الصحافة. في حديقة صغيرة من حدائق نيروبي، دوق ادنبره يلقي خطاب الاستقلال باسم الملكة، وجومو كينياتا يلقي كلمة الحرية وفي يده ذيل حصان أبيض يلوح به عاليا كلما صرخ «هارامبي»، والفتى ممثل الصحافة العربية برمَّتها، يجلس في الصف الثالث أو الرابع، إلى جانبه «ابنة خالة» حمراء الشعر، غير محددة العينين، صحافية من فرنسا، وكل غريب للقريب زميل. الحكاية ليست هنا، ففي نيروبي ليس أكثر من بنات الخالة، سواء كنت مستعمرا أو مناضلا أو صحافيا ناشئا حطك الحظ فيما يقول الأفريقيون إنها جنة عدن.

الحدث - أو الحكاية - بالنسبة إليّ أن أمامي بكرسي واحد كان يجلس - بين المدعوين - طوم مبويا، أشهر اسم استقلالي بعد كينياتا. وإذا كان الأخير تخرج في جامعة لندن للاقتصاد LSE فإن هذا الأفريقي الوسيم كانت محطته الأخيرة في أكسفورد، بعد رحلة في مدارس البلاد الفقيرة. ومثل الكيني حسين الذي سيولد له صبي يسميه باراك، حصل مبويا وكينياتا على منحة جامعية، سوف تغير تاريخ نيروبي وتاريخ واشنطن.

أذهلني - وأنا بعد في سن الاندهاش - أن أرى طوم مبويا أمامي لدرجة نسيت معها ابنة خالتي الفرنسية الحمراء الشعر التي لم يمحُ نصف قرن من ذاكرتي وسع عينيها (كاملا). فأنا كصحافي ناشئ أترجم الأخبار في الجريدة كل مساء لم يكن يمر يوم إلا وأنشر خبرا عن كينياتا أو مبويا. والآن ها هو أمامي، ولكن لماذا بين المدعوين مثلي، لماذا ليس إلى جانب شريكه وزعيمه في النضال، حامل ذيل الحصان الأبيض؟ طرحت السؤال في المساء على ابنة خالتي الفرنسية، فقالت: إنها أيضا ارتابتها الوساوس. هل يغار الرجل العجوز من هذا الشاب الذي يبدو كأن آخر همومه أين يجلس، لأنه صاحب مكانة لا طالب مكان.

تحدثنا - ابنة خالتي الفرنسية وأنا - إلى مبويا وطلبت منه مقابلة فبدا أنه مسرور بالعرض أكثر مما سررتُ بالقبول. كان رجلا ساحرا في منتصف الثلاثينات من العمر. بقيت لي ذكريات قليلة من نيروبي: العائلة اليمنية التي قمت بزيارتها في أطراف المدينة ووجدت أفرادها وضيوفهم «يخزِّنون» القات. الملهى الذي سمعت فيه هاري بيللافونتي يغني «جزيرتي التي في الشمس». كينياتا يهدر «هارامبي» للحرية. طوم مبويا أمامي. و«المول» الجميل وسط نيروبي المدينة، بالأبيض والأزرق.

بعد 5 سنوات، 1969. وأنا أترجم الأخبار الدولية، جاء خبر من نيروبي بعنوان «موت بعد الظهر» وهو كتاب شهير لارنست همنغواي عن مصارعة الثيران. قتل مبويا بالرصاص في المول. وفرَّ القاتل. وظل كينياتا حاكما حتى وفاته عام 1978 وجاء خلفه نائبه دانيال أراب موي أحد أفسد الأسماء في القارة التي أهلكها الفساد. إلى اللقاء.