الديمقراطية في الأزمة المصرية

TT

لم تحل سحب الخلاف الصاخب والتناقض الفج التي تلبد سماء الأزمة السياسية المستحكمة في مصر دون تلاقي طرفيها عند مثالب مشتركة شتى، كمحاولتهما معا احتكار الثورة والتحدث باسمها، فضلا عن الاستعانة بالفلول والاستقواء بالجيش واستدعاء الخارج تعضيدا للموقف التنافسي لكل طرف. غير أن القاسم المشترك الأكبر قد بدا جليا في غياب الديمقراطية عن صدارة أولويات أبطال المشهد السياسي الحالي، إلى الحد الذي يضع ما يجري الآن في عداد الصراعات السياسية المحمومة على السلطة أكثر من كونه نضالا من أجل الديمقراطية أو استكمال ثورة يناير 2011.

فالطرف الرافض لما يعتبره انقلابا عسكريا، والذي أبى إلا الاعتصام حتى عودة الشرعية ممثلة في الرئيس والبرلمان المنتخبين كما الدستور المستفتى عليه، يعد حكم الإخوان المسلمين مرادفا لحكم الإسلام ولا يخالجه شك في أن هناك «مؤامرة علمانية غربية» يحيكها خصوم الإسلاميين في الداخل والخارج بغية تقويض المشروع الإسلامي، ومن ثم لا يتورع عن ترديد شعارات من قبيل «هي لله»، «إسلامية إسلامية رغم أنف العلمانية»، كما لم يتردد في استخدام الدين كوسيلة للحشد الجماهيري بغية مواصلة الاعتصام.

وحينما يطالب ذلك الطرف بعودة الرئيس المنتخب، فهو يرى فيه، دون سواه، ممثلا للإسلام ومشروعه، وفيما لا ندرى هل يبقى معتصما ويظل محتفظا بهذه الروح النضالية حالة ما إذا كان الرئيس المطاح به يوم الثالث من يوليو (تموز) الماضي محسوبا على فصيل آخر غير تيار الإسلام السياسي أم لا، يكون المعتصمون قد اختزلوا مقاصد اعتصامهم في مرامٍ سلطوية جهوية، لا سيما أنهم لم يرفعوا شعار «الديمقراطية» أو استكمال ثورة يناير 2011 والحيلولة دون اختطافها من قبل نظام مبارك وعناصر الثورة المضادة، التي اضطرت حركة الثلاثين من يونيو (حزيران) الماضي للتحالف معها من أجل إسقاط حكم الإخوان المسلمين.

لكأن الإسلاميين إذن مصرون على البقاء في إسار توظيف الدين سياسيا، حيث تجري دغدغة مشاعر آلاف المصريين وتعبئتهم بدعاوى نصرة الإسلام في مواجهة مخططات العلمانيين وأعداء الدين في داخل البلاد وخارجها من دون الاعتماد على ممارسة الديمقراطية بآليات وأدوات سياسية تتضمن برامج وأفكارا قابلة للتطبيق، الأمر الذي يشي بعجز الإسلاميين عن حشد أنصارهم خلف قضية سياسية، وإن جنحوا لاستخدام شعارات ديمقراطية من قبيل «ضد الانقلاب» بغية اجتذاب التعاطف الشعبي واستجداء الدعم الغربي.

أما الطرف الآخر، الذي يضم أطيافا ثورية وليبرالية وقومية ويسارية، فقد استبدت به الرغبة في التخلص من كابوس تيار الإسلام السياسي بشتى فصائله، بعد أن أمسى ندا سياسيا عنيدا، طالما سلط بحضوره الجماهيري وقدراته التنظيمية الفائقة وماكينته الانتخابية الجبارة، الضوء على فشل تلك الأطياف مجتمعة وعجزها عن الصمود في معركة الديمقراطية، مستعينا في ذلك بالقوات المسلحة، التي أغراها حرصها على وحدة البلاد واستقرارها، بالتدخل لنصرة هذا الطرف، وبذا حمّل الإسلاميون الجيش مجددا، وزر إجهاض عملية إرساء دعائم الديمقراطية والحكم المدني في البيئة المصرية التي ما برحت تأبى تقبلهما.

وبذلك يتهم الإسلاميون التيارات، التي تصف نفسها بالمدنية، بسبيلها لتقويض أحد أبرز إنجازات ثورة يناير 2011، والمتمثل في دمج تيارات الإسلام السياسي في العملية الديمقراطية عبر السماح لها بتكوين أحزاب سياسية والمشاركة في الانتخابات، بمختلف مستوياتها، تصويتا وترشيحا، مما قد يزج بها مجددا في غياهب العالم الافتراضي حيث كابوس العزلة وهواجس العنف ومستنقع الخطاب التكفيري الجهادي، بعد أن أوصدت في وجهها أبواب العمل السياسي الديمقراطي. اللافت أن تراجع الديمقراطية على سلم أولويات طرفي الأزمة السياسية التي تعصف بمصر حاليا، لم يمنعهما من الادعاء وصلا بها بغية توظيفها لتعضيد مواقفهما في الأزمة؛ فالطرف المؤيد للرئيس المعزول يبرر موقفه الرامي إلى استعادة السلطة فضلا عن سائر مكتسباته من ثورة يناير 2011 عبر التمسك بما يراه شرعية دستورية. أما الطرف الآخر، فيحاول استغلال شرعية الحشد الجماهيري الهادر يوم الثلاثين من يونيو الماضي لتجريد الرئيس من شرعيته وانتزاع الحكم من الإسلاميين. وليس أدل على استخفاف كلا الطرفين بقضية الديمقراطية من إصرارهما معا على إبقاء السياسة في الشوارع والميادين، حيث الاستعاضة عن الديمقراطية وآلياتها التقليدية المتعارف عليها بالحشود الجماهيرية الغفيرة، التي لم تعد ترى في الأقنية والوسائط السياسية التقليدية، كالأحزاب والمؤسسات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، سبيلا كافيا للتعبير عن مطالبها وأحلامها، ما من شأنه أن يفضي إلى تغول الشارع إلى حد إضعاف مؤسسات الدولة والنيل من فعالية دستورها وتقويض دولة القانون وإجهاض دور الوسائط السياسية. هذا ناهيك عن مخاطر توظيف الحشود الجماهيرية لتعويق الديمقراطية أو الانقلاب عليها إذا ما اختطفت تلك الحشود من قبل قوى مثبطة للتحول الديمقراطي، وهو ما أوضحه صمويل هنتنغتون في كتابه المعنون «النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة»، والذي أكد فيه أن هشاشة المؤسسات والوسائط السياسية يمكن أن يهيئ السبيل لاستخدام المجتمع المدني والحشود الجماهيرية لتقويض التجربة الديمقراطية، وهو ما جرى في مارس (آذار) 1954 و30 يونيو 2013، حينما تحالف المجتمع المدني مع الجيش لإحداث تغيير سياسي يرفض بعضهم وصفه بالديمقراطي.

ولعل التداعيات المؤلمة لإقدام قوات الشرطة والجيش على فض اعتصامات مؤيدي الرئيس المعزول بالقوة تؤكد، بلا ريب، أن التربة المصرية لا يمكن أن تصلح لإنبات الديمقراطية من دون مصالحة وطنية حقيقية ترتكز على عدالة انتقالية ناجزة، تمهد بدورها السبيل لإيجاد حلول دستورية وثقافية ابتكارية لمعضلة المشاركة المستعصية والمتعثرة لأبرز طرفين في المعادلة السياسية بمصر ما بعد مبارك وهما الجيش وتيار الإسلام السياسي.

* رئيس تحرير مجلة «الديمقراطية» الصادرة عن مؤسسة «الأهرام»