محمود درويش: التشدد الثقافي.. والمرونة السياسية

TT

رغم تزاحم الأحداث السياسية في عالمنا العربي، وكثرة الموضوعات التي تغري بالكتابة عنها، فإن استحضار الشاعر الظاهرة محمود درويش، في الذكرى الخامسة لرحيله يبدو أمرا يستحق الأولوية في المعالجة.

وبعيدا عن التأبين، ومجاملة الذكرى بالإطراء والمديح، فقد اخترت واحدة من الخصائص المميزة بل والصعبة التي اتصلت بشخصيته وسلوكه، وظهرت بجلاء في مواقفه السياسية وإنتاجه الشعري الوفير، وأعني بها تشدده الحاد في أمر الثقافة، ومرونته الواعية في أمر السياسة، ذلك أن شاعر الضمير الفلسطيني، وحارس حدود وعمق الوطنية الفلسطينية، لم يسجن نفسه داخل شعار مستحيل، ولم يقبع في برج عاجي، ينظر منه إلى الحياة بمنظار المُثُل المجردة، بل إنه مشى على الأرض، وتلمس احتياجات شعبه واحترمها، وصار هاجسه الملح، أن يغادر الشعب الفلسطيني حالته المأساوية المزمنة، وأن يحقق لذاته كيانا مهما بدا ناقصا إلا أنه أفضل بكثير من اللاكيان واللاهوية.

كان محمود عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وهو أعلى إطار قيادي رسمي للشعب الفلسطيني، ولم يكن مجرد وردة ثقافية تعلق على صدر القيادة السياسية، بل كان فعالا في أداء المهام، فكان محمود «فاتح» الحوار الأميركي الفلسطيني، وكان كذلك ضمن الحلقة الضيقة التي واكبت مجازفة أوسلو. كانت فلسفة محمود في هذا النوع من المشاركات المحرجة تستند إلى منطقه الراسخ، بأن يرى للشعب الفلسطيني كيانا يشكل حاضنة لحياة حرة كريمة قدر الإمكان، وأن يتمتع هذا الشعب المهمش إلى حد الإقصاء بهوية سياسية تشكل الخطوة الضرورية لبلوغ الوطن السياسي أي الدولة.

إلا أن محمود السياسي المرن، والقيادي البراغماتي، لم يخلط بين مقتضيات السياسة التي لا يستطيع فيها أحد نيل كل ما يريد، وبين المحتوى الثقافي لحالة شعبه ومعتقداته وخصائصه وتاريخه، فكان من أوائل الذين عادوا إلى الوطن، متحملا كل الإهانات المتعمدة التي نظمها الإسرائيليون لجعله يغادر ولا يعود ثانية، ومتحملا كذلك قسوة رؤية بيت الأسرة في «الجديدة» عن بعد، أو أن يزوره في أوقات متباعدة، وبعد سلسلة من الإجراءات الصارمة.

كان بوسع محمود، أن يدير ظهره لهذا العذاب المرير، وأن يغادر ولا يعود، وأن يغلف موقفه الهروبي بأكثر الشعارات العبثية رواجا وربما قداسة، إلا أنه لم يفعل، فكان بيته في رام الله أول الوطن وليس آخره، وزيارته إلى «الجديدة» أول الحلم وليست منتهاه.

لقد كان محمود مقنعا لشعبه وأمته، حين كان صادقا في التشدد الثقافي ولم يسمح للثقافة أن تتبدل في خدمة الراهن السياسي، وكان صادقا في مرونته السياسية ليضع شعبه قدامه على أول الطريق إلى الحرية الحقيقية.

من أهم ما قال محمود إنه يحلم برؤية الفلسطيني وقد صار إنسانا عاديا، أي أن يغادر سجن «السوبرمانية» الشعارية والافتراضية، وأن يكون الفلسطيني عاديا، يعني أن يكون مثل الآخرين، له بيت وهوية وفضاء حرية، وأن ينظر إليه العالم كما ينظر للآخرين من شعوب الأرض. وكان يقول: كم أحب أن ينظر الناس لأشعاري بعيدا عن أنها تجسيد قريب أو بعيد للمأساة التي يعيشها شعبي، فأنا أكتب شعرا لا شعارا.. أحب أن يجري تناول شعري من زاوية الإبداع والجودة أي بصورة موضوعية صرفة.

ما أراده لنفسه، كان يريده لشعبه، فليوضع الفلسطيني في ميزان المواهب والقدرات والإسهامات الفعالة في الحياة، وليس بميزان الشفقة التي تبدد الخصائص الموضوعية للإبداع لمصلحة تحيز للضحية، التي يخشى محمود أن تظل على حق حتى لو لم تكن كذلك.

لهذا كان يسترشد في نظرية الإنسان العادي، بالمبدعين الكبار من أبناء شعبه، فلم يحظَ إدوارد سعيد على مكانة واحد من أهم الأكاديميين ومثقفي العصر لأنه صاحب مأساة، ولم يحظَ البروفسور إبراهيم أبو لغد بما حظي به من مكانة في أميركا والعالم لأنه كذلك، وقائمة محمود درويش في هذا المجال وفي كل المجالات لا تنتهي.

لقد خلد محمود درويش نفسه بالإبداع، وليته يكون نموذجا لأبناء شعبه الذين ليس لهم من وسيلة لإثبات الوجود، إلا الإبداع في كل مجال من مجالات الحياة.