للذين يريدون البراءة من «خراب مصر»

TT

هل هناك من يتمنى «خراب مصر»؟.. نعم.. نعم.. ستون نعم!! بل هناك من يسعى إلى تحقيق هذا الغاية اللئيمة!!.. من هؤلاء – مثلا - رئيس الاستخبارات العسكرية الصهيونية السابق. فقد قال - بعيد تقاعده عام 2010: «لقد نجحنا في مصر، حيث زرعنا عوامل الشقاق بين مكوناتها الأساسية لكي يظل المصريون دوما متصارعين مشغولين عنا بهذا الصراع».. ومن الأهداف الاستراتيجية الثابتة لإسرائيل: أن تظل مصر «كسيحة» أبدا. فهذا هو الضمان الوحيد - في نظر الصهيونية - لمنع مصر من نهضة حقيقية تمثل خطرا جديا على إسرائيل: في المستقبل القريب والبعيد.

والحق أن هذه استراتيجية يتبناها آخرون، أي استراتيجية وجود مصر «كسيحة» دائما.. لقد بدأ محمد علي باشا نهضة جادة: اجتهد فيها من الاقتراب من النماذج الأوروبية، ربما لتقديره أن هذا النهج يرضي الأوروبيين فيتركونه وشأنه، ومع ذلك سعت أوروبا أو القوى الكبرى فيها إلى «إجهاض» نهضة محمد علي - لا سيما النهضة الصناعية.. وفي نصيف خمسينات القرن العشرين تصرفت مصر في ما تملك حين بسطت سيادتها الوطنية على قناة السويس. وعندئذ ردوا عليها بالعدوان الثلاثي (البريطاني الفرنسي الإسرائيلي) عام 1956.

صحيح أن دولا أخرى عديدة - في عالمنا هذا - عانت أشد المعاناة من تعويق نهضتها، بيد أن مصر قد خُصت بتعويقات أكثر عددا، وأثقل ضغطا، وأطول زمنا، وأفدح أثرا.

لماذا؟

لأن مصر هي أحد أكبر وأعظم «المراكز الاستراتيجية للإسلام» في العالم.

نعم.. لم تقم في مصر «خلافة إسلامية عالمية» صحيحة - بالمفهوم التقليدي للخلافة - لكن أثر مصر العلمي والفكري والثقافي امتد إلى العالم الإسلامي كله، وهو أثر تمثل في الثقافة العربية والإسلامية الأصيلة التي حملها الكتاب المصري، وحملها عشرات الألوف من البشر المصريين، أو ممن تلقوا العلم في مصر من غير المصريين.

هذه الرسالة الحضارية الكبيرة جعلت مصر - بلا ريب - أحد «المراكز الاستراتيجية العالمية للإسلام»، وهو وضع تسبب في نقمة أعداء الإسلام عليها.. يضاف إلى ذلك أن مصر هي التي تقدمت الصفوف لأجل كسر أعتى موجتين عسكريتين اجتاحتا العالم الإسلامي: موجة التتار.. والموجة الصليبية.. وكانت طليعة الكفاح ضد الاستعمار في العصر الحديث.

ومفهوم أن يتمنى الأعداء، وأن يسعوا إلى «الإضرار» بمصر. لكن ليس مفهوما أن يسارع المصريون أنفسهم إلى تحقيق أماني يكرهونها من حيث أنها ذات أماني أعداء بلادهم!! أماني إضعاف مصر، وتفتيت نسيجها الاجتماعي والوطني حتى يظل المصريون «متصارعين» باستمرار.. حسب تعبير رئيس الاستخبارات العسكرية الصهيونية السابق.

إن ما يجري في مصر اليوم ليس في مصلحة مصر – قط - وإن ادعى كل طرف أنه يخدم مصر!!

وربما كان الاختلاف السياسي طبيعيا ومحتملا.. أما الأمر الشاذ وغير المحتمل فهو «الصراع الدامي»، وسفك الدم المعصوم بهذه الكثرة والسهولة!!

وليس يليق بذي ضمير وعقل أن يقلل من فظاعة ما جرى، فهو مهول حقا.

وبدافع من هول ما حدث، سارع شيخ الأزهر إلى البراءة مما وقع، فقد خاطب المصريين - عبر التلفزيون المصري - فقال - ضمن ما قال: «إن الأزهر لم يعلم بإجراءات فض الاعتصامات إلا من خلال وسائل الإعلام».. وهذه براءة واضحة من المشاركة في التخطيط لتلك الإجراءات.. وبراءة واضحة من تحمل ذرة واحدة من المسؤولية عما وقع.. ثم عظّم شيخ الأزهر حرمة الدماء المعصومة مستشهدا بقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم».

ثم بدافع من هول ما حدث، أعلن الدكتور محمد البرادعي نائب رئيس الجمهورية استقالته من منصبه.. ومما علل به استقالته قوله: «لقد أصبح من الصعب عليّ أن أستمر في حمل مسؤولية قرارات لا أتفق معها، وأخشى عواقبها، ولا أستطيع تحمل مسؤولية قطرة واحدة من الدماء أمام الله وضميري ومواطني، مع إيماني بأنه كان يمكن تجنب إراقتها».

هذه البراءات مما وقع في مصر ينبغي أن تكون «قاعدة» براءات كل مصري، وكل محب لمصر مما جرى، ومما ربما سيجري في المستقبل، لا قدر الله.

وهذه براءات يقتضيها ضمير كل من لا يطيق «خراب مصر» أو حرقها في صراع مجنون أو نزق.

بصراحة: ما وقع في مصر، صباح الأربعاء الماضي، ضربة دامية لجماعة الإخوان المسلمين.

ولكن - بصراحة أيضا - «تشويه دموي» لصورة الجيش المصري وسمعته.. فتاريخ هذا الجيش لم يسجل حالة واحدة وجه فيها الرصاص إلى صدور الشعب المصري.. وعندما اكفهر الجو، وبلغت الروح الحلقوم في حراك 25 يناير (كانون الثاني)، ونادى نفر من الناس بأن الأمن الوطني في خطر، وطالبوا - من ثم - بأن يتدخل الجيش لحسم الأمر، ساعتئذ سارع الجيش المصري إلى إصدار بيان قال فيه: «إن القوات المسلحة المصرية هي من صميم الشعب المصري. ولن توجه رصاصة واحدة إلى صدر مصري».

ومهما كانت التفسيرات لما جرى يوم الأربعاء الماضي، فإن هناك تفسيرا يتوجب استيعابه واعتباره وهو: كأن من أهداف السيناريو «تخريب» الجيش المصري أو تلويث سمعته.. ففي المنطقة جيوش عربية دمرت لمصلحة طرف معروف.. وعلى الرغم مما تعرضت له مصر فإن جيشها ظل متماسكا، وظلت صورته مقبولة، فهل المطلوب - في سياق ضرب الجيوش الرسمية بهذه الوسيلة أو تلك - هو هدم سمعة الجيش المصري الذي استعاد عافيته ووضاءة صورته بعد حرب 1973، وهي حرب أزالت ما لحق بسمعته في حرب 1967.

وليس ثمة وسيلة لتشويه سمعة الجيش المصري أفظع من وسيلة صدامه مع شعبه، وتوجيه بنادقه إليه. ففي هذه الحال يفقد هذا الجيش شرعية وجوده وهي «حماية الشعب المصري»، أي حماية الآباء والأمهات والإخوة والأخوات والأولاد والأحفاد.

فمن أراد أن يتبرأ من «خراب مصر» فليكفْ عن تحريض الجيش على ما يسيء إليه هو نفسه.

إن الطريق إلى «مجد» الجيش المصري الآن ليس سفك المزيد من الدماء، بل يتمثل المجد في «حقن» الدماء: بتبييت النية على ذلك، وبمباشرة الوسائل التي تحقق تلك النية.

ومن صور البراءة من «خراب مصر»: أن يكف الإعلام عن التحريض على القتل، وعن «التحريش» المنهجي بين الأطراف المتنازعة، فالتحريش بين البهائم يؤدي إلى المناطحة ولذلك حرمه الإسلام.. وإذا كان قد قيل - على مستوى عالمي: إن الإعلام ينبغي أن يكون «أداة تفاهم بين الشعوب والأمم»، فإن ما هو ألزم من ذلك وأوجب أن يكون الإعلام «أداة تفاهم بين تيارات الشعب الواحد»، كالشعب المصري.

إن الإعلامي الذي يحرض على القتل هو شريك في جريمة القتل، وفي رقبته جزء من دم القتيل.. الإمام الشعبي من أكابر التابعين، وكان يلقي درسا في المسجد. وتشعب الحديث حتى ورد ذكر مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه.. عندئذ قال أحد الجلوس كلمة معناها إن عثمان يستحق ما جرى له!! هنالك انتفض الإمام الشعبي ووجه الكلام إلى صاحب مقولة السوء وقال له: «قم من مجلسي فإن عليك كفلا من دم عثمان».. لماذا؟ لأنه وافق – بالكلام - على الجريمة بعد وقوعها بمدة طويلة.. وصدقت العرب حين قالت: الحرب أولها كلام..

وليتفق المصريون على كلمة سواء هي: مهما اتسع الخلاف السياسي والفكري بيننا، فلا يحل لأحد منا - في كل مستوى - أن يلجأ إلى القتل بأي سلاح كان.