مدن الصيف: في بلاد الحمامة المطوقة

TT

يخامرك شعور غريب عندما تصل إلى قرطبة: كما لو أنك تعرف المكان من قبل. بل كما لو أنك أمضيت شيئا من عمرك تجالس هذه الحجارة. وهي جميلة كثيرة شهباء هنا، حتى أن وادي الحجارة الرائع احتفظ باسمه العربي بعدما زالت أروع ممالك العرب خارج جزيرتهم الكبرى.

كم مرة كررت لجنابكم ماذا قال نزار قباني وأنا أروي له مشاعري بعد أول زيارة إلى البلاد التي ضيعها الجهل العربي بعدما بناها العقل العربي. قال، يا فلان، احمل حقائبك وانتقل إلى العيش هناك، فسوف تجد أن إنتاجك قد تحسن من دون جهد. كان قاسيا فيما يحب وما يزدري. أذهلني يوما وهو يخبرني أنه قال لأحد منتحلي الصفة، منتحلي الأقلام: يا أخي كف عن الكتابة. كتاباتك مثل أكياس الخيش في دمشق القديمة. قلت لأبي توفيق: لا تتوقع مني رأيا، فأنا لا أعرف أكياس الخيش في دمشق، ولا قرأت حرفا من أخياش هذا الرجل.

هل تريد أن تسميهم الخياشين؟ على رسلك. ولكن إذا كنت في عمل الكتابة فبكر في الذهاب إلى قرطبة وطليطلة ومعك «طوق الحمامة» لمؤرخ العشق ومحامي الحب والمدافع عن الشقراوات عزيزنا وخلنا ابن حزم الذي، بعكس كل من سبق ومن لحق، مشرح النثر بالشعر. وشعره جميل يزداد عندك رونقا ورقة كلما بعدت عن مشاعر الصبا وحر الشباب. وكان رحمه الله يقول: إن حرارة الحب تشفي من حرارة الغلب وكل حرارة أخرى، وذلك قبل زمن من اختراع المضادات الحيوية.

من منكم يذكر مارلين مونرو؟ لقد مثلت فيلما شهيرا عنوانه «الرجال الحصفاء يفضلون الشقراوات». وكانت إلى جانبها ممثلة إغواء سمراء تدعى جين راسل، ولا داعي للتفاصيل في المقارنة، فإنها لا تليق بالفئة العمرية. كل ما أريد قوله: إن ابن حزم أطلق هنا الحكم قرونا قبل صاحبة المسرحية الهزلية التي تحمل هذا العنوان. نعم، الرجال والنبلاء وشيوخ عشائر المرية وإشبيلية وغرناطة ووجهاء قادش وأفخاذ بني مرة في جبل طارق، جميعهم يفضلون ذوات الشعر الذهبي اللامع في الشمس، كما قال صاحب «طوق الحمامة في الألفة والآلاف».

هام، على ما يبدو، بجارية شقراء فأحب كل ما من لونها. وانتقد كل ما في العباسيين حتى لون راياتهم السود. وقيل بل هو هيامه بالولادة بنت المستكفي، التي كانت شقراء زرقاء العينين، التي هامت بدورها بالشاعر ابن زيدون إلى أن سلا هذا «قمر السماوات» ووقع في حب «كوكب أسود» فهجرته إلى الوزير ابن عبدوس. ولماذا «ابن زيدون» لا «ابن زيد». يقول الدكتور إحسان عباس، أحد أبرع الذين عكفوا على الآداب العربية، أن الـ«ون» دخلت علينا من الإسبانية. فليكن. نحن ملأنا الإسبانية أحرفا وكلاما. إلى اللقاء.