«الشرعية» في الديمقراطيات المكتملة

TT

تعليقات الإخوان، في «فيس بوك»، ومواقعهم ورسائلهم على مقالة الأسبوع الماضي تركزت على نقطتين؛ رفض أي مناقشة خارج شرطهم بعودة «الشرعية» برئاسة الدكتور محمد مرسي لأنه «منتخب».. والثانية تجاهل أسباب إصرار واشنطن - لندن - بروكسل على دعم حكومة إخوان إسلامية، أو - بعد ثورة 30 يونيو - إدخالهم في حكومة ائتلافية مصرية، باتهامي «بربط الإخوان بالغرب الاستعماري» من دون أدلة.

النقطة الأخيرة لم تكن رأيا أطرحه، بل جهد تجميع محاضرات، ومحاضر ورش عمل/ حوارات مغلقة off the record في معاهد استراتيجية وخزانات تفكير thinktanks.

الدراسات (التي تمول معاهدها مصالح تجارية ولوبيات سياسية) تضاعفت بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، تركزت على إقناع صناع القرار بتقسيم الإسلام السياسي إلى معسكر الاعتدال - متوقعين أن يسير في الطريق الديمقراطي (أي النموذج التركي)، ومعسكر الجهاديين مستصدري فتاوى تسمي الإرهاب «جهادا» وتكفر الخصوم. لم تقدم الدراسات دليلا واحدا قانونيا أو ماديا على أن جماعات كالإخوان أو تنظيمها الدولي نبذوا الإرهاب وراجعوا تاريخهم الدموي في بيان مسجل من دون لف ودوران واستثناءات (إذا كانت خصومتهم مع الجيش والداخلية وما يسمونه بالانقلاب، فلماذا هاجموا وأحرقوا 45 كنيسة بعضها تراث ثقافي عالمي في سجلات اليونسكو، وقتلوا وجرحوا مصريين مسيحيين)؟

الدراسات المحايدة (غير الممولة تجاريا أو حزبيا) اكتشفت أن «الاعتدال» و«التطرف العنيف» وجهان لعملة الإسلام السياسي نفسها، تكتيكان لاستراتيجية هدم الدولة القومية المدنية، وتفكيكها إلى إمارات إسلامية لدولة الخلافة، بمفهوم ولاية الفقيه لتنفيذ مشيئة الله على الأرض.

وتحت الدراسات نفسها تأتي مجموعتان؛ الأولى روجت دراستها أن القوى التي ستستولي على السلطة بسهولة، عقب ثورة أو بالانتخابات هي الإخوان المسلمون (تحت أسماء أخرى في ثقافات بلدان غير مصر)، واستخدمت في البداية من الساسة لدعم الدكتاتوريات خشية البديل، ثم العمل على دعم هذه الجماعات بعد انتفاضات 2011.

الثانية تركز على منع إيران من تصدير الإرهاب وتهديد السلام والاستقرار عبر جماعات تنشط لتحريك الشيعة، بحلف من حكومات إسلامية، إحياء لنظريات الحرب الباردة كالأحلاف والمحاور وسياسة الاحتواء (كالأطلسي NATO، ووارسو، وبغداد، وتحالف غرب أوروبا WEA، وتوازن إسرائيل عسكريا مع بلدان الحدود مجتمعة، والاحتواء المزدوج dual containment للعراق وإيران... إلخ).الباحثون معي جمعوا هذه الدراسات فخرجوا بملخص يطابق تطور القرار السياسي في واشنطن ولندن في إدارة أوباما: صفقات مع حكومات إسلامية «معتدلة» لاحتواء الجماعات الإرهابية و«القاعدة».

راجت شعبية فرنسا وبريطانيا بالمساعدة في الإطاحة بالكولونيل القذافي، لتكمل انتفاضات 2011 فرصة أوباما للخروج من مأزق تهمة ازدواجية المعايير بمحاضرات الديمقراطية بينما تؤيد الدكتاتوريات عمليا.

لكن أوباما، وتبعته لندن وباريس، قبل خرافة الوجه المعتدل للإسلام السياسي (راجع مقالات سابقة عن لقاءات تنسيق العمل بين السفيرة الأميركية في القاهرة آن باترسون وزعماء الإخوان غير المنتخبين كالمرشد العام ومكتبه قبل أية لقاءات أجرتها مع نواب الإخوان المنتخبين للبرلمان المصري في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011). في تقريرها صباح الخميس قالت مراسلة «بي بي سي» من واشنطن (ولها خبرة سنوات في عواصم المنطقة، وتتحدث العربية بطلاقة) إن تطبيق هذه النظرية (إسلام معتدل في الحكم يكبل أيدي الجهاديين) في باكستان أدى إلى فقدان الأميركيين نفوذهم في باكستان، وقد فقدوا معظمه الآن في مصر وتدهورت العلاقة، ولذا لم يستخدم أوباما كلمة «انقلاب» في كلمته يوم الخميس لإدانة العنف، حتى لا يمنح الكونغرس مبرر قطع الدعم العسكري لمصر، ويفقده آخر أمل في إصلاح العلاقة مع الحكومة المتوقع انتخابها في فبراير (شباط) المقبل.. (أدركت المراسلة مدى الاحترام الذي يتمتع به الجيش المصري كمؤسسة الدولة الباقية بلا أدلجة).

أما عن مسألة الشرعية والديمقراطية فلا حاجة للخوض في البديهية التاريخية بأن كل أدبيات الإخوان ترفض الديمقراطية بشكلها البرلماني كبدعة غربية تتناقض والشريعة (الإخوان يتجاهلون الانتخابات البرلمانية ويركزون فقط على شرعية انتخاب الرئيس الفرد - كالولي الفقيه أو زعيم الخلافة - أي أن الانتخابات مجرد وسيلة لتطبيق الشريعة بتطويرها لقوانين تفصل على مقاس آيديولوجيا الإخوان)؛ فقط أسوق أدلة تاريخية عملية لديمقراطية ناجحة ومستقرة. حسب العلوم السياسية لا يمكن لعاقل أن يختصر الديمقراطية كأسلوب حياة سياجتماعية، ونظام حكم إلى مجرد الانتخابات (وخطة الجماعة ومرسيهم أخونة مفصليات الدولة والمجتمع لتصبح كإيران فيستحيل على أي سياسي من خارج الاحتكار الإخواني الترشح عندما تحل الانتخابات القادمة بعد أربع سنوات، وهو ما يقصدونه بالشرعية).

ديمقراطية بريطانيا الأقدم والأكثر استقرارا في العالم، لم تكتمل بشكلها الحالي إلا في القرن الـ19 في Reform Act 1832 أو قانون الإصلاح السياسي (وانتظرت النساء قرابة 90 عاما أخرى ليحصلن على حق التصويت) وتعديلاته 1867 و1882، لكن سبقتها قرون من ثلاث مؤسسات كانت الدعائم التي اكتمل فوقها البنيان الديمقراطي البرلماني.

صحافة حرة، بسبب أنها إما فردية وملكية خاصة وليست للأحزاب أو الدولة، وموجودة في البرلمان قبلها بقرنين.

ثانيا: مؤسسة حكم القانون (بقضاء مستقل) منفصل عن الدولة والمؤسسة الدينية، بتراكمات أحكام قضائية تعود إلى العصر الساكسوني قبل 12 قرنا.

ثالثا: وثائق لها قوة الدستور لحماية حقوق الإنسان كفرد، وليس كهوية ثقافية ضمن جماعة أو عشيرة أو طائفة دينية أو عرقية، بل فرد له حقوق الملكية وحرية التعبير والفكر والاعتقاد وتغيير الدين. وثائق كالمجناكارتا 1215 (قبل قانون الإصلاح بألف عام) وقانون الحقوق المدنية 1699. أي تقاليد حماية حقوق الإنسان بالقانون. ولقرون قبل قانون الإصلاح، تجد شكل مجلسي العموم واللوردات يضع المقاعد في صفوف متقابلة، الحكومة على يمين منصة الرئيس speaker والمعارضة على يسارها.. فلا يمكن لحكومة مهما كان حجم أغلبيتها البرلمانية أن تتخذ قرارات صحيحة في مصلحة الأمة بلا معارضة قوية بحكومة ظل لديها مشاريع قوانين بديلة وميزانية بديلة.

غابت هذه التقاليد من مصر بعد انقلاب الضباط الأحرار، وأصبح البرلمان مثل قاعة محاضرات يلقي منه رئيس الدولة أو الحكومة الدروس، ليس نزال جدل بين حكومة ومعارضة.

ولذا فالحديث عن «شرعية» انتخاب مرسي كنهاية النشاط الديمقراطي إلى أن يحل موعد الانتخابات القادمة ليس حقا يراد به باطل بل مغالطة تاريخية.