لماذا يهتم الخليجيون بمصر؟

TT

في مقال كتبه الدكتور مأمون فندي في هذه الصحيفة قبل أسبوع، لفتني فيه العديد من النقاط المثيرة للجدل، تستحق الوقوف عندها وتفنيدها. كان المقال ينتقد ما يكتبه «إخوان الخليج» أو من سماهم الدكتور بحرفيته العالية في هندسة المصطلحات «الإخواليجي» أي الخليجي ذا الانتماء الإخواني، وقد وجه إليهم الدكتور فندي نقدا لاذعا في كونهم يكتبون عن أمر لا يفقهون فيه.

بداية، فالناشطة اليمنية توكل كرمان التي انتقدها الدكتور فندي والكثير من المصريين بسبب موقفها الرافض لثورة يونيو (حزيران) ليست خليجية في المقام الأول، وليست مقياسا من حيث رصانة الموقف العربي لأسباب عديدة، منها أنها ناشطة محلية، كوفئت بنوبل للسلام لأعمالها الحقوقية التي واكبت ثورة اليمن، لا يبدو أنها تمتلك رصيدا معرفيا حول ما يجري خارج حدود دولتها، بدليل أن منتقديها يملكون ضدها تصريحاتها المتناقضة؛ فقد ناوأت إدارة الرئيس المعزول مرسي إبان فترة حكمه وتمنت على وزير الدفاع عزله، ثم نددت بالعسكر حينما عزلوه، إضافة للأمر المهم وهي أنها ولدت وعاشت ولا تزال تحت حكم العسكر في بلدها، وبالتالي لا يحق لها أن تنتقد في بيوت الآخرين ما يحصل في بيتها.

من حيث المبدأ، فإن المتغيرات السياسية في المنطقة العربية منذ 2011 تنطق الحجر، فالكل، حتى الأطفال، يتحدثون في الشأن السياسي، وهو أمر مفهوم لأن الأحداث متسارعة، جذرية، وغير مسبوقة، وتثير شهية العارف وغير العارف في التحليل وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة. في مصر بشكل خاص تتعاظم الرغبة في الحديث وطرح الرأي، بل إن المواطن الخليجي يعرف أسماء شخصيات الصف الثاني والثالث من رجال السياسة والدين في مصر أكثر مما يعرف عن جارته اليمن، رغم قيام ثورة فيها أطاحت بنظام لم يكن يقل صلابة عن النظام المصري السابق، دع عنك دول الثورات الأخرى البعيدة مثل ليبيا وتونس التي قلما تجد خليجيا مجتهدا يتحدث عنها.

أسباب الاهتمام الخليجي بمصر متعددة، أكثرها عمومية هو أن مصر بتاريخها وثقافتها مخترقة للمجتمع الخليجي من طريقين؛ التعليم والإعلام. التعليم لأن المصريين حجر أساس في مؤسسات التعليم الخليجية، والإعلام من خلال الدراما المصرية التي شاركت في خلق جزء غير هين من الخلفية الثقافية للمواطن الخليجي، فهو يعرف عن التسلسل التاريخي لمصر في العصر الحديث أكثر مما يعرفه عن أي دولة أخرى؛ من سقوط الملكية وثورة الضباط الأحرار إلى اغتيال السادات.

هذه الأسباب لتدخل الخليجيين في مصر قد تكون غير مقنعة بسبب عموميتها، أما السبب الرئيسي والذي تجنب الدكتور فندي في مقاله التطرق إليه لضيق المقام، هو أن الرابطة الحزبية الفكرية بين إخوان مصر وإخوان الخليج هي الدافع وراء الاستماتة في الذود عن الرئيس المعزول، والحق أنه سواء كانت هذه الدفاعات منطقية أو تنم عن جهالة بالمجتمع المصري فإنها في كل الحالات منقولة نصيا عما كان يقال على منصة رابعة العدوية.

أتابع كغيري مواقع التواصل الاجتماعي «تويتر» الذي أمسى عدسة مكبرة كشفت تفاصيل دقيقة عن مواقف سياسية وانتماءات آيديولوجية لكثير من الشخصيات العامة الخليجية التي كانت تلتزم مبدأ التقية أو التخفي. كل ما كان يقال على منصة رابعة العدوية، وكل التطورات في السلوك والتعبير لأنصار جماعة الإخوان المسلمين في الشارع كان ينقل مثل صدى الصوت إلى إخوان الخليج، سواء في «تويتر» أو في الكتابات الصحافية.

نعم أوافق أن هناك سطحية وجهلا في تناول الشأن المصري من قبل هؤلاء، ولكنه انعكاس لحقيقة نعلمها وأثبتها الواقع أن جماعة الإخوان المسلمين أظهرت بجلاء جهلها في العمل السياسي وقراءة المجتمع المصري قراءة صحيحة.

ما يظهر من عيوب اجتهادات إخوان الخليج ليس بسبب بعدهم عن حقيقة الوضع المصري، بل لأنهم يستمدون معلوماتهم ومواقفهم عبر الرابطة العضوية التي تربطهم بالتنظيم الدولي الذي لا يعترف بنظام الجنسية ولا بكل ما يرتبط بالقانون الدولي الخاص الذي وضعه الفقهاء الهولنديون قبل مائة وخمسين عاما، وتعمل به اليوم كل شعوب العالم باستثناء سكان الجزر الموغلة في المحيطات التي اكتشفها البحارة أخيرا، يعيشون كما لو أنهم في العصر الحجري.

كما أن المشكلة ليست في أن إخوان الخليج أو مصر لا يفهمون معنى الشرعية، بل هم اليوم على دراية أكثر من أي وقت مضى أن ما يمنح الشرعية ليس صندوقا وبصمة، وأن محاولتهم لحرق عربة الديمقراطية التي أقلتهم إلى سدة الحكم كان جهلا مدقعا، إنما المشكلة أنهم لا يريدون الإقرار بذلك لأن طعم الهزيمة شديد المرارة، خاصة ممن كانوا يدعون التفوق والفوقية 80 عاما، كالطالب البليد الذي يدافع عن رسوبه بشتم المدرسة والمعلم.

كتاب الخليج المجتهدون في الدفاع عن شرعية الرئيس المعزول عادوا، كما أملي عليهم من رابعة العدوية والنهضة، إلى الأدبيات السابقة وشعار «الإسلام هو الحل»، رغم أن الجماعة تعهدت بعد فوزها بالرئاسة بأنها تنشد الدولة المدنية، ولكن ما إن عاشوا محنة الرفض من الشارع المصري حتى استداروا ولوحوا بشعار الإسلام مدعين أن ما يحصل في مصر هو معركة بين الإسلام والكفر، لتكون فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير.

المهم الآن أن مصر لا يمكنها أن تنتظر حتى تصفو أجواؤها للعمل السياسي الحر، ولا يمكنها أن توقف مسيرتها الديمقراطية حتى تنظف الدوائر الحكومية المشرفة على الانتخابات من اللصوص وحرامية الأصوات، لأن مصر بدأت فعليا التجربة الديمقراطية في ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، وهي تعيش الآن فترة ما بين الحكم الشمولي والحكم الرشيد، ومن الصعب القول إن البيئة الانتخابية التي جاءت بالرئيس المعزول لم تكن حرة ولا أرضية للعمل الديمقراطي، لأن هذا سيفتح بابا واسعا للجدل الطويل، حتى إذا جاء رجل نبيل لحكم مصر سيكون الطعن فيه سهلا بالحديث عن الأجواء غير المهيأة لممارسة الديمقراطية.

بالنهاية لا يمكن إلا أن نضع دولة مثل مصر في حجمها الحقيقي، وهو كبير ومهم، ليس فقط لأنها موطن رأس التنظيم الإخواني الممتد إلى الخليج، ولكن لقيمتها العروبية التي تجعل حتى غير المنتمين لـ«الإخوان» من الخليجين مهتمين بالشأن المصري، فاستقرار مصر هو طمأنة لكل العرب، وزعزعة أمنها مبعث للقلق. إنه ليس أكثر من إثبات أن مصر فعلا أم الدنيا.