منصور وجميلة

TT

كنت صغيرة عندما زارت جميلة بوحيرد بغداد، أيام الزعيم عبد الكريم قاسم. لقد خرجت شقيقاتي، مع الآلاف من طالبات الثانويات واصطففن على طريق المطار القديم، للترحيب بالمناضلة الجزائرية التي قهرت سجون فرنسا، وبقيت في البيت أبكي. كنت أصغر من أن يأخذنني معهن.

أكثر من مرة، شاهدت الفيلم الذي أخرجه يوسف شاهين عن جميلة، ثم شاهدتها، رؤية العين، بعد أكثر من عشرين سنة، في متجر للثياب في الجزائر. ولما قيل لي إنها جميلة بوحيرد لم أتعرف على الشابة التي كنت أحفظ صورتها. كما لم أشأ أن أتطفل عليها وهي في لحظة حميمة.

كنت أعرف أنها تزوجت من محاميها الفرنسي، جاك فيرجيس، الذي توفي في باريس أول من أمس. وفرحت عندما سمعت أن ابنتهما مريم اقترنت بشاب عراقي، ابن صديقة لي. لكن قصص الحب الأسطورية تبقى من اختصاص السينما. أما في الواقع فغالبا ما تنتهي على غير ما نتمنى. لقد انفصلت جميلة عن جاك الذي كان قد اعتنق الإسلام وعمل مع ثوار الجزائر تحت اسم حركي هو منصور.

توارى فيرجيس، فجأة، عن المشهد العام، في عام 1970، وغاب غيابا تاما لسبع سنوات، ثم عاود الظهور، فجأة، من دون أن يشفي غليل الذين سألوه أين كان. وتراوحت الترجيحات بين إقامته في لبنان مع الفصائل الفلسطينية لأنه كان مطلوبا للموساد، وبين التحاقه بصديقه القديم بول بوت في كمبوديا. وقد ظهرت مقالات كثيرة وصدرت كتب لكشف لغز اختفاء المحامي المثير للزوابع. لكنه اكتفى بالنفخ على نار الفضول قائلا: «كنت في الجانب الآخر من المرآة».

بحكم المهنة، أتيح لي أن ألتقي فيرجيس الذي اعتبره الثوريون بطلا من أبطال مقاومة الاستعمار، بينما أطلق عليه خصومه ذلك اللقب الشهير «محامي الشيطان». وأذكر أنني عندما اتصلت به أطلب مقابلة خاصة، قال لي بكل تواضع: «تعالي بعد الظهر لأنني مسافر غدا إلى الجزائر لأفك حبل المشنقة عن رقبة قاتل». وذهبت ورأيت مكتبا فخما يليق بملك، وكانت هناك صالة ملحقة به تحتوي على طاولة كبيرة من الرخام صفت فوقها مجموعة من رقع الشطرنج الأثرية والنادرة.

تحدث كثيرا وقال كلاما جميلا ومنمقا. كان أنيق العبارة، وتلك مهنته، وأنيق المظهر، وتلك آفة باريسية ومن ضرورات مخالطة الكبار. ولما سألته عن السبب الذي يغريه بالدفاع عن مجرم الحرب النازي كلاوس باربي وكارلوس وأمثالهما، أجاب: «أدافع عن الوحوش لأنهم بشر». واخترت العبارة عنوانا للمقابلة.