علاقاتنا في هذا الزمن الرقمي

TT

أود في هذا المقال أن أتطرق إلى جانب مهم في علاقاتنا الأسرية سواء في منطقة الخليج أو المنطقة العربية ككل. جانب غزته التكنولوجيا الحديثة ففعلت فعلتها فيه.

قد لا نلتفت إلى هذه القضية ولا نعيرها اهتماما في حركتنا اليومية الدؤوبة في هذا الخضم الإلكتروني الذي يحاصرنا من كل جانب، ولكن المسألة غدت أمرا واقعيا ربما نستطيع التخفيف من وطأته وحدته على علاقاتنا التي أراها تنتحر ببطء على المستوى الأسري، وبالتالي على المستوى المجتمعي ثم الوطني.

أعرف أن هناك مشكلة عالمية في هذا الشأن، تعاني منها كثير من المجتمعات، ولكن أن تسود في مجتمع محافظ إلى حد ما، فهذا أمر قد يقطع حبل الوصل بيننا وبين أبنائنا وبناتنا وأسرنا بشكل متسارع.

نعلم أن العلاقة بين الناس جميعا أخذت تصب نحو العالم الافتراضي.. عالم الإنترنت، فلقد غدا العالم يتحدث بعضه إلى بعض من خلال هذا الممر الساكن الذي لا كلام منطوقا فيه.

أغبط كثيرا سكان القرى، وأتمنى من كل قلبي أن أعود إلى أحضان القرية التي أخرجت منها بسبب الوظيفة، أحن كل يوم إلى تلك الأيام الخوالي التي قضيتها هانئا مطمئنا لا أشكو فيها من ضيق الوقت ولا قصر اليوم. كل يوم نكبر فيه هو يوم تزداد فيه مشاغلنا، ويقل فيه فراغنا، وينقضي فيه يوم من عمرنا.

أحيانا نتمنى أن نحيا حياة آبائنا، في هدوئهم وسكينتهم وفي بركة الوقت لديهم، صباحهم يبدأ قبل أذان الفجر بهدوء وسكينة ووقار وحب للحياة ليوم جديد، يصحون على أصوات الطبيعة وتغريد طيورها، يحمدون الله ويشكرونه على أن منَّ عليهم بحياة جديدة ويوم جديد، يتناولون عقب الصلاة فطورهم بكل سكينة وراحة، يلتقي بعضهم مع بعض مع أهلهم وجيرانهم وإخوانهم، يسردون ما مضى عليهم من يوم وما يقبل عليهم من يوم آخر وهم يتناولون ما تيسر من طعام وقهوة تحت شجرة أو غافة أو ظل ظليل، يذهبون بعدها كل إلى عمله بكل سكينة واطمئنان، ويبدو يومهم طويلا ينجزون فيه الكثير من الأعمال بكل راحة وطمأنينة، يساعدهم في ذلك وسائل النقل من الدواب والأنعام التي تعينهم على العمل والجد وإنجاز أعمالهم.

الآباء كان لديهم احترام كبير لكل الأوقات، وقت الراحة محترم ومقدر، وقت الصلاة إلزامي وإجباري في حينه، وقت الغداء والأكل في ساعته ووقت النوم والقيلولة لا يخطئونه، كل شيء عندهم بميزان، وفي نهاية اليوم يرجعون إلى مضاجعهم هانئين مطمئنين من دون ضجيج وزحمة آلات الإنارة التي تخطف الأبصار، هم والنجوم والقمر متسامرون.

حياتنا نحن الأبناء هي على عكس ذلك تماما، بعد سبات ونوم ليلي نصحو على صوت منبه الهاتف الجوال يوقظنا لنبدأ يوما جديدا، ما إن نقوم بإسكات هذا الصوت المزعج حتى نلقي أول نظرة لنا بعد بعثنا من جديد على هذا الجهاز الصغير، هل من اتصال؟ هل من رسائل؟ هل من بريد إلكتروني؟ هل من صور؟ حتى قبل أن نحمد الله على أن منَّ علينا بالحياة ليوم جديد وأحيانا من بعد ما أماتنا.

نتناول فطورنا في السيارة، حتى كوب الشاي وقطعة الخبز الصغيرة ليس لدينا وقت لتناولها في المنزل مع الأسرة والعائلة، الكل يذهب إلى عمله مسرعا، زحام وسرعة ولهاث في كل شيء في الشارع، في العمل، في المنزل، في كل شيء نحن متأخرون ونسرع للحاق بأي شيء يمكننا أن نلحقه.

نأكل بسرعة، ننجز أعمالنا بسرعة، نتعرف على أناس جدد يدخلون حياتنا بسرعة، نحب بسرعة، نكره بسرعة، نبدل أشياءنا بسرعة، عصرنا نعتناه بعصر السرعة، من لم يجار سرعتنا فلا مكان له بيننا. من أراد أن يكون بطيئا فليذهب لزمن الآباء والأجداد ويعش بينهم يمتطي دوابهم ويعيش حياتهم البطيئة.

«ليس لدي وقت» كلمة صار يرددها الجميع من الصغير وحتى الكبير، ولا أدري بحق لماذا لا يوجد لدينا وقت ونحن نملك الفراغ كله، نقضي الساعات في مشاهدة التلفزيون، ونقضي مثلها في رسائل الدردشة التي لا تسمن ولا تغني. نقضيها متنقلين من جهاز لآخر، فمرة على جهاز الكومبيوتر، بعدها إلى الهاتف الجوال، ونظرة أخرى إلى جهاز التلفزيون، ورابعة إلى الجهاز اللوحي، وهكذا هي حياتنا غارقة في اللاوقت الذي نضيعه على اللاشيء حتى نفاجأ بأننا رحلنا عن هذه الدنيا ولم ننجز إلا القليل لأنفسنا بسبب أنه ليس لدينا وقت.

* كاتب عماني