تعايش متألق

TT

في أواخر شهر رمضان الماضي، وفي أحد مساجد مدينة «الحد» البحرينية، كان الموعد مع إعلان الفائزين في المسابقة الدينية الرمضانية. لم يستغرب أحد من رواد المسجد من أن تكون الجوائز المقدمة للفائزين بهذه المسابقة عبارة عن أجهزة إلكترونية تبرع بها تاجر بحريني يهودي معروف، لأن هذا التاجر ظل لسنوات طويلة يتبرع بالجوائز ويساهم في الأنشطة والفعاليات الإسلامية، دون تردد منه، ودون تحفظ من القائمين على هذه المساجد.

حين أروي هذه الحادثة للبحرينيين، وخصوصا للأجيال القديمة التي لم تعرف تعصبا ولا فرزا طائفيا أو دينيا، مثلما هو الحال في بعض المجتمعات العربية اليوم، لا أجد من يستغرب من ذلك. فالأسر البحرينية اليهودية معروفة بالثراء واشتغالها بالتجارة، وليس مستغربا أن يقوموا بالتبرع للأنشطة الدينية والإسلامية، خصوصا أنهم عاشوا بين المسلمين وتربوا في أحيائهم وأقاموا تحت ظلال المساجد، وأصبحت الأذانات جزءا من ذاكرتهم الوطنية، فهم إن تبرعوا للمساجد فإنما يتبرعون لما أصبح جزءا من هويتهم القومية وثقافتهم العربية. ولقد عاش هؤلاء اليهود بين المسلمين البحرينيين، ولم تكن لهم حارة خاصة بهم ومنعزلة عن الناس.

حينما تم تعيين السيدة هدى نونو سفيرة لمملكة البحرين في واشنطن، وهي سليلة إحدى العوائل اليهودية المشهورة في البحرين، ظن البعض أن هذا التعيين مجرد دعاية تريد الحكومة البحرينية ترويجها للخارج، بشأن حقوق الأقليات الدينية في البحرين، خصوصا أن هذا التعيين تبعه قرار آخر بتعيين السيدة أليس سمعان سفيرة للبحرين لدى المملكة المتحدة، وهي سليلة إحدى العوائل المسيحية. ولكن الحق أن الديانات والمذاهب في البحرين وتعايشها مع المسلمين لها تاريخ مديد في البحرين، وليست وليدة اللحظة، وليست مجرد دعاية لتلميع الصورة الخارجية للبحرين.

فمن يزور البحرين يجد هذا التلاقي الجميل بين مختلف الطوائف والديانات والتجاور بين أماكن عبادتهم. وكم أجد من الفخر أن أذهب إلى جامع الفاروق، وهو الجامع السني المهيب القائم وسط المنامة، وأصلي به، ثم أجدني أخرج منه قاصدا زيارة أحد الموتى في مقبرة الشيعة بجواره. ولا أجد غضاضة في أن أوقف سيارتي في موقف الكنيسة الملاصقة لمقبرة الشيعة، أو أن أكمل هذه الزيارة بعيادة أحد المرضى في مستشفى الإرسالية الأميركية، وهو المستشفى المسيحي الأكبر في البحرين.

وحين يتوفى أحد من هذه الديانات يهب البحرينيون ويأتون من مختلف المناطق لتقديم واجب العزاء لأسرهم وعوائلهم، ولا يجدون أي حرج في تقديم العزاء في الكنيسة أو في مجلس تُتلى فيه الصلوات المسيحية أو اليهودية. فالطيبة البحرينية وعفوية البحرينيين لا تدع مجالا لوضع الحواجز أمام تقديم الواجب واتباع ما تمليه عليهم دماثة خلقهم وحق الجيرة.

وباستثناء ردة الفعل العفوية من بعض البحرينيين المتحمسين بعد نكسة 1967، وما حدث بعض اليهود البحرينيين، فإن التاريخ البحريني الحديث لم يشهد تضييقا على المسيحيين أو اليهود من قبل المسلمين، سواء على مستوى الدولة أو الأفراد، ولم تتعرض العوائل المسيحية أو اليهودية لأي اعتداء أو دعوات لطردهم من مساكنهم أو مقاطعة لبضائعهم وتجارتهم.

بل إن قرار تعيين سيدة مسيحية وأخرى يهودية في سفارتي البحرين في واشنطن ولندن، والتزام الدولة بتمثيل اليهود والمسيحيين في مجلس الشورى البحريني منذ تأسيسه إلى اليوم، لم يحظيا سوى بتأييد البحرينيين وباقتناعهم بضرورة وجود تمثيل لهم في المؤسسة التشريعية، باعتبارهم مواطنين كاملي المواطنة، مساهمين في بناء الدولة الحديثة منذ تأسيسها.

هذا من دون أن أنسى أن أشير إلى وجود البحرينيين البهائيين، وهم يدرسون في المدارس والجامعات إلى جانب أقرانهم من الديانات والمذاهب الأخرى، دون أن تكون هناك أي دعوات لعزلهم أو تأسيس مدارس خاصة بهم؛ سواء لهم أو لغيرهم من اليهود والمسيحيين.

إضافة إلى الوجود الكبير لطائفة البهرة، وإقامة المعابد، مما يجعل البحرين، هذا البلد الصغير الذي لا يزيد عدد ساكنيه على المليون وربع المليون مجتمعا فسيفسائيا متنوعا لا يجد ساكنوه غضاضة من التعايش، على الرغم من الاختلاف في الطوائف والأديان.

وإذا كان المجتمع البحريني قد عاش على التنوع، ولم يجد غضاضة في ذلك طوال القرون الماضية، فإن هذا ما يجعلني أكثر تفاؤلا بقدرة البحرينيين على التصدي لأي دعوات تفتيتية تشرذمية تحاول بعض الأطراف الخارجية المغرضة تصديرها للبحرين، من أجل النيل من هذا البلد، الذي كان دائما فوق التشرذم وأكبر من التفرق، بسبب الاختلاف الديني أو الطائفي.

وإن كان هناك من أثر قد تركته الصراعات الإقليمية على العلاقات بين بعض البحرينيين، ومحاولة جر المختلفين في هذا البلد الوادع إلى صدام طائفي، فإننا نعول على الروح البحرينية الأصيلة في تجاوز هذه الآثار والعودة بالمجتمع إلى ما هو عليه دائما من حب وود واحترام وتعايش.

* كاتب بحريني