شك جديد.. الحكومة تخاف من نفسها

TT

في الصورة النمطية الشعبية، دائما ما يقوم مؤيدو نظريات المؤامرة بتوجيه شكوكهم تجاه الحكومة، مثل الشك في قيام وكالة الاستخبارات المركزية بإطلاق النار على الرئيس الأميركي السابق جون كيندي، أو التشكيك في هبوط وكالة «ناسا» للفضاء على سطح القمر، أو أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) كانت عملا أميركيا، ولكن أهم أنواع الشك السياسي هي تلك التي تأتي من أناس داخل أروقة السلطة، وليس من أشخاص من خارج المشهد السياسي، وكان آخر مثال على ذلك هي الحملة على التسريبات التي أصابت الحكومة بالرعب من موظفيها، حتى أصبحت واشنطن خائفة من نفسها.

وقد تم إطلاق «برنامج التهديد الداخلي» في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2011، ولم يتضاءل منذ قيام إدوارد سنودن بالكشف عن تفاصيل التجسس الداخلي لوكالة الأمن القومي. وكما قال مراسلا صحيفة «ماكلاتشي» الأميركية ماريسا تايلور وجوناثان لانداي، فقد تم تشجيع الموظفين الاتحاديين على مراقبة «المؤشرات» المشبوهة في حياة زملائهم في العمل، مثل المتاعب المالية وحالات الطلاق. وأصدر جهاز الأمن والدفاع كتيبا بعنوان «التهديدات الداخلية: مكافحة العدو داخل مؤسستك»، يلخص الهدف من البرنامج في جملة تقول: «أن تبلغ بحماس أفضل من ألا تبلغ على الإطلاق».

وقد ظهرت كلمة «تجسس» 10 مرات في هذا الكتيب، بينما لم يتم استخدام كلمة «تسريب» ولو مرة واحدة، ولكن الجزء الأكثر مكرا في هذه الحملة هو أنها قد طمست الحدود الفاصلة بين الجواسيس والمخبرين. يأتي هذا في الوقت الذي تستعد فيه الحكومة لملاحقة من يقوم بتسريب الأخبار بموجب قانون التجسس. وسوف ينطبق هذا البرنامج على من يقوم بتسريب معلومات إلى وسائل الإعلام. وقالت وثيقة صادرة عن وزارة الدفاع الأميركية إن تسريب المعلومات «يعد بمثابة مساعدة لأعداء الولايات المتحدة».

وقد تم اعتماد «برنامج التهديد الداخلي» في وكالات وهيئات ليس لها علاقة تذكر بالأمن القومي، بما في ذلك إدارة الضمان الاجتماعي والإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي وإدارة التربية والتعليم. وهناك برنامج إرشادي لموظفي وزارة الزراعة يتضمن «أمثلة من السلوكيات التي قد تشير إلى معاناة شخص ما من نقاط ضعف قد تهم الأمن»، مثل النوم في المكتب - مما قد يكون علامة على إدمان الكحول - أو التعبير عن أفكار أو تصورات أو توقعات غريبة. وقد تم نسخ هذه القائمة بحذافيرها من وثيقة وزارة الدفاع الأميركية.

وتشمل نظريات المؤامرة الأخرى المجموعات التي تبدو مختلفة: يمكن التعرف على المتآمرين المشتبه بهم من خلال المكان الذي يعيشون فيه وهويتهم العرقية أو وضعهم الاجتماعي، في الوقت الذي يعيش فيه العدو في أي مكان ويبدو مثل أي شخص عادي. ويمكن أن يكون زعيم تلك العصابات في بلد آخر، بينما يكون عملاؤه جيرانك العاديين أو زملاءك في العمل أو أحد أفراد عائلتك. ويكمن أن يتورط أي شخص في جزء من المؤامرة.

ولا تعد هذه هي المرة الأولى التي تتحول فيها محاولة تهدف إلى حماية الأمن القومي إلى شيء أكبر وأكثر فوضوية وخطورة على الحريات الفردية.

كانت الحملة الأكثر شهرة على العدو في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عملية الخوف الأحمر، حين تسبب الخوف من الجواسيس السوفيات في مشكلة حقيقية؛ لا للعملاء الأجانب فقط، بل لمجموعة من الأفراد أصحاب الميول اليسارية الآيديولوجية.

في تلك الأيام، كان الشواذ والسحاقيات يتعرضون لمضايقات أمنية. ففي عام 1950 حذر مدير الاستخبارات روسكو هيلنكوتر لجنة الاستخبارات بالكونغرس، من أن تولي «منحرفين مناصب رئيسة» يشكل «حكومة داخل حكومة». فالمثليون جنسيا العاملون في الخدمة المدنية، يميلون إلى أشباههم؛ فالمنحرف يجلب منحرفين آخرين إلى الوكالة، وينتقلون من منصب إلى آخر، ولا يهمهم سوى متعة اللحظة.

وتبع ذلك عملية تطهير كبيرة. أبلغ البيروقراطيون المحققين حول زملاء العمل الذين يشتبهون في أنهم مثليو الجنس؛ ومارس المحققون ضغوطا على المشتبه بهم لذكر أسماء الرجال الشواذ والسحاقيات العاملين ضمن الحكومة. وكذلك قامت الشركات الخاصة في واشنطن، لا سيما إذا كانت لديها عقود حكومية وتصاريح أمنية، باتخاذ إجراءات صارمة ضد عمالها. وقد قدر جونسون عدد الذين أقالتهم وزارة الخارجية بنحو 1.000 موظف يعتقد أنهم شواذ في الخمسينات والستينات. لم يكن ذلك بالمثير للدهشة؛ فقد كانت الولايات المتحدة على الدوام موطنا لكثير من الشواذ أكثر منها للشيوعيين.

عملية «ليك سكير» ربما تكون العملية الوحيدة القابلة للتعديل، نظرا لأنها لا تعني الخوف من دولة أو ثقافة معينة، فهناك عدد لا يحصى من الدوافع لإفشاء معلومات سرية أو حساسة لوسائل الإعلام، نتيجة لقناعات سياسية أو حروب بيروقراطية. وهناك كثير من المواد التي تم حجبها لأنها قد تجعل الوكالة - أو شخصا بداخلها - تظهر في صورة سيئة. في الوقت ذاته ربما تجبر مخاطر التهديد الداخلي المحققين على انتهاج وسائل أكثر فظاظة في استجواب الموظفين وفق شكوك لا أساس لها وتسميم أجواء العمل.

وبالتالي، فإن الحرب على التسريبات تدفع حكومة إلى تدمير متعمد لممتلكاتها لمنع أبنائها من الاطلاع على المعلومات المتاحة للجمهور..

الآن هناك عدو بالداخل.

* خدمة «واشنطن بوست»