أوباما عاد من إجازته.. توقعوا الأسوأ

TT

من أطرف ما قيل عن إجازات الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، كلمات الإعلامية الأميركية بام سبولدينغ يوم 12 أغسطس (آب) 2007: «انظروا إلى الأمر كما يلي.. كلما ازدادت إجازاته تناقص احتمال الأضرار التي سيلحقها بالبلاد».

الرئيس الحالي باراك أوباما عاد بالأمس من إجازة استغرقت أسبوعا في ربوع ولاية ماساتشوستس، وجاءت في توقيت سيئ بالنسبة لسياساته الشرق أوسطية. ومع تراكم أخطاء الإدارة الأميركية الحالية، وتزايد جرعات النفاق الذي تتسم به حيال الشرق الأوسط، أعتقد أن كلمات سبولدينغ تصدق أيضا على أوباما.

إن أسوأ ما حملته إدارة أوباما إلى شعوب المنطقة، التي كانت ساذجة في تصديق مثالياتها، وَهْم «التفاعل الإيجابي» وأكذوبة الالتزامات الأخلاقية بالعدالة وحقوق الإنسان والحريات العامة والديمقراطية. واليوم، بعد أكثر بقليل من أربع سنوات من خطاب أوباما في القاهرة (يوم 4 يونيو/ حزيران، 2009)، الذي بشّرنا فيه بمزيد من التفهم والتفاهم من منطلق الاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة، يسقط الوهم وتنكشف الأكاذيب.

لقد ظهرت الحقيقة المرة أمام الفلسطينيين والإسرائيليين الطامحين حقا إلى سلام عادل ودائم وإنهاء الاستيطان، وتظهر أيضا أمام السوريين الذين صدّقوا أن واشنطن متحمسة لإنقاذهم من نظام دموي طائفي فاسد، والمصريين الذين تفاءلوا خيرا بأن أوباما يتفهم المعنى العميق للديمقراطية في دول قلما خبرتها وتحملت تبعاتها.

في هذه الفترة الأليمة والمصيرية إقليميا يتبين للعرب أولا، ولجيرانهم ثانيا، أن إدارة أوباما لا تقيم وزنا للتفاعل الإيجابي القائم على الاحترام المتبادل، ولا التزامات أخلاقية لديها إلا بالألفاظ و«الكليشيهات» السياسية التي قد تنطلي على ناخب أميركي طيب قادر على محاسبة ساسته عندما يكذبون عليه، لكنها ما عادت مقنعة لجمهور عربي خدعته السياسة الأميركية مرارا وتكرارا، خصوصا خلال العامين الأخيرين.

لقد سقطت مثاليات أوباما عند أول اختبار فعلي أمام إصرار حكومة نتنياهو وشبقها الاستيطاني. إذ أدار ظهره للفلسطينيين المعتدلين الراغبين في التفاوض والإسرائيليين المؤمنين بالسلام، مقدما هدية لا تقدر بثمن لمتشددي الجانبين، حماس من جانب و«الليكوديين» ومن لف لفهم من جانب آخر. وها نحن أمام مهزلة تفاوضية جديدة استبقت حكومة نتنياهو انطلاقها بإقرار مزيد من الوحدات الاستيطانية.. وكالعادة، اكتفى وزير الخارجية الأميركي جون كيري بإبداء الأسف والحث على المضي قدما في التفاوض العبثي الفارغ.

في سوريا لا يقل الوضع سوءا. فالنظام الذي دأبت الإدارات الأميركية المتعاقبة على وضعه على قائمة دعم الإرهاب، والذي تفنن على امتداد أكثر من 40 سنة في ارتكاب الجرائم والمجازر، ما عاد إسقاطه هما لإدارة أوباما. بل هي الآن تكمل واقعيا ما بدأته إدارة بوش الابن في ترك المنطقة نهبا للطموحات الإسرائيلية والإيرانية «المتقاطعة».

أوباما، في اعتقادي يتذكر كيف جرى التعامل مع العراق. كيف خُدع العراقيون الذين كان جل همهم إسقاط نظام تسلطي لا يحاور شعبه وجيرانه إلا بالقتل، ليكتشفوا لاحقا أن وطنهم غدا مجرد كيان هش «تابع» لإيران وأجهزتها الأمنية، شماله الكردي شبه مستقل، وأمنه منعدم، ومستقبله على كف عفريت.

ومع أن أوباما جعل نصب عينيه اعتماد سياسات مغايرة تماما لتلك التي نفذها بوش الابن وزمرة «محافظيه الجدد» الليكوديين، وبالذات في العراق، فإنه يكمل حاليا في سوريا نهج سلفه.. ولو بأسلوب مغاير. إنه يسلّم سوريا تسليم اليد لإيران تحت ذريعة وجود خطر أكبر في صفوف المعارضة هو خطر الإسلاميين المتشددين والجماعات «التكفيرية» الدائرة في فلكهم. والمشكلة هنا أن واشنطن تدرك جيدا أن معظم «التكفيريين» طارئون على المشهد السوري وغالبيتهم أتت إلى سوريا من الخارج، بعد مرور أشهر عدة على تفجر الثورة الشعبية السلمية.

إن جزءا رئيسا من المأساة السورية بات سياسة «النأي بالنفس» الأميركية أمام أفظع جرائم بحق المدنيين في تاريخ الشرق الأوسط الحديث. وتقاطع المصالح الواضح بين المشاريع الإقليمية، وتحديدا بين إسرائيل وإيران، يوحي بأننا انتقلنا بعد مسرحية انتخابات «العلاقات العامة» الرئاسية الإيرانية الأخيرة إلى مرحلة سياسية وعسكرية أشد خطورة. وسيزيد التداعيات الخطرة لهذه المرحلة العداء المستجد بين تركيا «الأردوغانية» ومصر في أعقاب الانتفاضة الشعبية المصرية التي دعمها الجيش ضد الرئيس «الإخواني» الدكتور محمد مرسي.

النموذج «الديمقراطي» التركي فقد رونقه عالميا بعد اعتصامات ساحة «تقسيم»، ثم موقف رجب طيب أردوغان من التغيير المصري. ومحاولة الجيش المصري إنقاذ بلاده من استقطاب مدمر جرّت عليه غضبة غربية متباكية على الديمقراطية، مع العلم بأن الغرب الذي يتذرع بالمتشددين الإسلاميين في سوريا يرفض أن يقتنع بأن البيئة «الإخوانية» في مصر كانت الحاضنة الطبيعية للجماعات المتشددة. بل إن حماس، المتهمة إسرائيليا وأميركيا بالتشدد والإرهاب، هي النسخة الفلسطينية لتنظيم «الإخوان» في مصر.

في المقابل، نجحت إيران في تصوير انتخاب حسن روحاني كـ«نقلة نوعية» تؤكد عودة التعقل والاعتدال والرغبة في التفاهم مع العالم بعد سنوات محمود أحمدي نجاد العدوانية ونبراته الاستفزازية. لكن مرحلة أحمدي نجاد ما كانت سيئة أبدا لجهة ترويج «المشروع الإقليمي» الإيراني القائم ظاهريا على مواجهة الغرب وإسرائيل، وإحراج الأنظمة العربية التي كان خطاب طهران الناري يرميها بالتخاذل والجبن. واليوم، نلاحظ أن العواصم الغربية راغبة في تصديق «النقلة النوعية» الإيرانية.. ولو كانت تدرك زيفها. باختصار العواصم الغربية، وعلى رأسها واشنطن، لا تمانع في أن تنخدع - برضاها الكامل - لأن لديها مصلحة الآن في إيران ذات حضور وازن في العالم العربي. وكل كلام السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله اللبناني، عن خطر «التكفيريين» ليس أكثر من «كلمة سر» في التفاهم الضمني الأميركي - الإسرائيلي - الإيراني، لا سيما أن علاقات طهران وأتباعها الإقليميين (على شاكلة نظام دمشق وحزب الله) بالجماعات «التكفيرية» علاقات تستحق التمحيص والمراجعة الجدية.

لقد كان تسمين «التكفيريين» ورعايتهم وتسهيل حركتهم عبر كيانات الشرق الأوسط جزءا أساسيا من استراتيجية طهران، برضا تل أبيب.. وربما بمباركة واشنطن.