مدن الصيف: الكاتب الذي رسم جعبته

TT

لا أكف عن الكتابة عن سعيد فريحة، لأنني لا أتوقف عن قراءته. وكلما قرأت قديمه اكتشفت فيه جديدا آخر لا تبهته السنون. لم نعد في عمر يبهرنا فيه شيء أو يفاجئنا شيء. لكن سعيد فريحة مفاجأة تجدد نفسها دوما أمامك مع أنها آتية من خلف الزمن.

ابتكر سعيد فريحة في الصحافة شيئا سماه «الجعبة». والعنوان في حد ذاته ضرب صحافي. أن «الجعبة» التي كان يكتبها كل أسبوع هي مقال سياسي وظرف أدبي ونقد اجتماعي ودعابة جميلة وأدب رحلات ومجموعة معارف وريبورتاج صحافي وسخرية من الذات وشكوى من اليتم الصعب واستنكار للجوع ودائما عنصر لا يتغير: عشق لفاتنة في مطار أو مطعم أو فندق أو صاحبة عينين سوداوين في مدريد، لا قبل ولا بعد، إلا عيون الأندلس.

يحرص سعيد فريحة على أن يذكرك دائما بأنه تعلم القراءة على نفسه، على ضوء قنديل شحيح في غرفة صغيرة في حقل زيتون على تلال بيروت أوائل القرن الماضي. يصل هذا الصحافي إلى فندق في واشنطن نسي اسمه، لكن كيف يشدك من يدك لكي يغير اهتمامك؟ «طلبت النزول في الجناح الذي حلت فيه أم كلثوم عندما جاءت للعلاج، فقيل إنه مشغول».

أقرأ الآن في رحلة سعيد فريحة إلى سان فرانسيسكو عام 1961 فعن ماذا يخبرك الرجل الذي لا يعرف كلمة إنجليزية؟ عن شريط الحقائب في المطار «حيث لا تضيع حقيبة واحدة في كل أميركا وجميع مطاراتها». وهنا يتوقف ليمدح الشعر العربي والكتابة والخيل والليل والبيداء، لكنه يقول إنه يفضل لأمته إنجازا في العلوم ولو أصبح هو بلا جعبة وبلا عمل.

في اليابان حاصره البرد في جناحه، فحاول عبثا تشغيل المكيف فاتصل بعامل الاستقبال شاكيا فقال إن مركز التشغيل في مبنى مجاور، فكتب في جعبة طوكيو إن «التكييف في الفنادق يدار من الخارج، مثل حكم الشاه». وفي مدريد ينقلك على رفيق الورق ورفات الجفون بين البائعة روزيتا التي هام بها وديكتاتورية فرانكو الذي قتل نصف مليون إنسان. متى؟ بعد نهاية الحرب الأهلية!

رسم كلاسيكي، في قلب لوحة سوريالية، في قلب بحر من الألوان. لم يتكرر سعيد فريحة في الصحافة العربية. هل تصح مقارنته بجزالة وألوان وأسلوب محمد التابعي؟ لا. التابعي كانت خلفه مصر والعهد الملكي ومرافقة فاروق إلى النمسا واللحاق باسمهان إلى القدس. سعيد فريحة كان يتيما خلفه بلد صغير وأسماء لا شهرة لها في العالم العربي لكن «جعبته» كانت تقرأ في دواوين الملوك والرؤساء والأدباء وصالونات أم كلثوم وعبد الوهاب.

أحيانا كثيرة لم يكن في «الصياد» شيء آخر يقرأ سوى «الجعبة». وكانت الناس ترضى وتسعد. أشغل آلاف الناس بعودته متأخرا على رؤوس أصابعه إلى البيت، وأشغلهم بقدرته على الكتابة العاشقة كل أسبوع، واسترضاء زوجته في نهاية الجعبة، أو على أبعد تقدير في الحلقة المقبلة. سمى نفسه «غريب الديار» وسماها «أم البنين» التي تتذكر ماذا يجب أن يحمل معه من ثياب وأدوية وشيكات كان يصرفها دون حساب، انتقاما من طفولة اليتم الفقير والحزين، الذي أنتج أحد كبار المعلمين في هذه المهنة، التي لم يعد فيها للكلمة مكان. إلى اللقاء.