الأكاديمي الذي تغير بالشارع

TT

أكن احتراما كبيرا للدكتور خالد الدخيل أستاذ علم الاجتماع السياسي، الذي التقيته في منزل الدكتور الغذامي برفقة الصديق الغائب علي العميم وآخرين قبل ثلاث عشرة سنة، حينها لم يكن الدكتور خالد قد تم تقديمه في المشهد الإسلاموي على هذا النحو الانتهازي اليوم كأحد رموز الاعتدال الليبرالي المنصف لأسباب عديدة تتصل بطبيعة الاستخدام البراغماتي لشخصيات خارج نجوم الإسلام السياسي الذين عادة ما يفقدون المتانة السياسية في التحليل، كما أن حضور شخصيات من خارج الوسط لتعزيز رؤية مشتركة ولو آنية هو جزء من إدارة المعركة في ثنائية الإسلاميين والسلطة، وربما كان اختيار الدخيل كبديل ملائم عن تركي الحمد الشخصية الأكثر ارتباطا بالهجاء ضد الليبرالية لسبب لا يتصل بعلمية أي منهما أو نتاجه الفكري قدر موقف الأخير الحاد والصلب من الإسلام السياسي، وتلك قصة أخرى لها مناسبة (للطرافة يمكن البحث باسم الدكتور في محرك «تويتر» لتنسدل قائمة من المباركين لليبراليته المعتدلة باعتباره الشخصية الوحيدة التي يحترمها أنصار الإسلام السياسي، في حين أن نجوم هذه القائمة من ألد خصوم ما يسمى بالليبراليين على طروحات لا ترقى لقناعات الدكتور حول الموقف من قضايا الشريعة والعلمانية ومفهوم الدولة.. إلخ).

أستحضر الدكتور خالد - الأكاديمي الدمث والمحاور الجيد - في هذه المقالة كنموذج لاستلاب الأكاديمي من قبل سلطة السائد والجمهور، ليقع في تناقضات وتعميمات مضللة لم تكن نتاج فساد النظرية أو التصور السياسي؛ وإنما لهشاشة ممارستها على الواقع وافتقارها للمصادر والبحث والتنقيب والمعاينة وكل أدوات البحث العلمي واللجوء إلى الشارع بما يحمله من تصورات شعبوية مغلوطة تؤدي إلى ارتباك في الرؤية مدفوع بحالة عدم رضا سياسي محلي يتم تعميمه على السياسة الخارجية، وهذه أزمة أخرى.

وحتى لا يكون الحديث مرسلا بلا خطام، سأتناول موقف الدكتور من «الحدث الإخواني - المصري» عبر مقالاته منذ بدايات الأزمة والتي اتخذت طابعا تصاعديا من التحليل إلى التساؤل إلى التشكيك إلى الوقوع في تزييف الحقائق وبشكل دراماتيكي جعلني أفكر لوهلة أننا إزاء ذوات سياسية متباينة بأدوات متطابقة! والأجدر بالقارئ الحريص على تبين ملاحظتي الأخيرة هذه أن يقرأ مقالات الدكتور منذ سنة ونصف السنة مرتبة بحسب تواريخها من الأقدم للأحدث.

هناك خمسة محددات رئيسة لفهم موقف الدخيل المرتبك من الأزمة: موقفه من الإخوان، وموقفه من الجيش المصري وباقي القوى، وموقفه من حزب الله بشكل طائفي وليس سياسيا، وموقفه المزدوج من النظم السياسية بين دعم التوريث والانقلاب الأبيض والتصعيد بضرورة الإصلاح السياسي من جهة ثانية، وليس آخرا موقفه شديد الارتباك من فهم طبيعة ودور السياسة الخارجية السعودية التي بات يلح عليها منذ سنتين أن تستثمر ضعفها في حين أن كل المؤشرات تؤكد أنها لم تكن حاضرة وقوية ومؤثرة بل ومهيمنة كهذه الأيام، وتلك قصة أخرى سأتطرق لها لاحقا.

ولأن مقالات الدكتور مطولة جدا فسأقتبس في كل محور الأهم ويمكن بالعودة إلى المقالة تفحص الفكرة بشكل أكبر حيث يعتمد الدكتور على الأسلوب المدرسي في الكتابة والذي يشبع الفكرة من كل جوانبها ويحاول إعادتها وتدويرها بأشكال مختلفة، وسأقتصر من المحددات الخمسة على حدث الساعة، وهو نهاية الإسلام السياسي ممثلا في موات الأنموذج الإخواني.

في الموقف من الإخوان يرى الدكتور رغم إيمانه بفشلهم في إدارة الحكم أن أهم عامل في ما يجري هو قلق المؤسسة العسكرية من حكم الإخوان لأنهم المنافس الوحيد لهم في الشارع، وأن الجيش ساهم في الانقسام الشعبي وانقسام النخبة وهم سبب حالة الكراهية في المشهد، وأن النخبة يعبرون عن كره الإخوان بلغة بذيئة لا مسؤولة وأن الثورة انتهت إلى ضابط عسكري ألغى بجرة قلم ملايين الأصوات، وأن هذا الجيش لم يكن ينفذ إرادة شعبية والقول بذلك فذلكة.

هذه المتلازمة من الأوهام السياسية هي محصلة آخر مقال للدكتور بلغ الذروة في الاستلاب من الشارع، وهي بالطبع تتناسى أن الجيش المصري يباين مفهوم «العسكرة»، فالجيش المصري ليس جيش نخبة تطوعيا وظيفيا لكنه جيش شعبي وطني حيث التجنيد الإلزامي الذي يعد تاركه خائنا، كما أن الجيش كان حليفا للإخوان منذ بدايات الثورة ولو قيل إنه كان الضامن لبقائهم طيلة فترة حكمهم رغم الاحتجاجات الشعبية من قبل الثوار والنخب لكان أصوب، والحال أن هذه التعميمية لمظلومية ثنائية عسكري - إخواني منتخب في طياتها الكثير من التبسيط المخل الذي لطالما حذر منه الدكتور، فمصر حالة سياسية الآن مركبة، مصر مبارك غير مصر يناير (كانون الثاني) غير مصر يونيو (حزيران)، حيث تم إعادة رسم الخارطة السياسية والتحالفات والولاءات عدة مرات، فطنطاوي الذي حاول منع وصول الإخوان فشل وتم عزله رغم أن سلطته داخل منظومة الجيش أقوى من السيسي الذي عين بديلا عن طنطاوي لأسباب تتصل بالتصور الإخواني له كمعتدل ومتدين، كما أن تدخل الجيش في إسقاط الإخوان لم يكن بسبب خوفه حيث مصالحه مضمونة في بقاء الإخوان الأكثر قدرة على التحالف مع أي فصيل ومهادنة حتى إسرائيل على حساب السلطة، بل بسبب ثورة شعبية كان الدكتور خالد يعتبرها طرفا ثالثا في المعادلة في مقالاته السابقة حيث يقول: «للمرة الأولى، طرفا ثالثا منخرطا مباشرة في حال الانقسام، وهذا الطرف هو الشعب» («الحياة»: الأحد 28 يوليو/ تموز 2013). وفيه أيضا نسف فكرة انفراد الجيش علانية حيث رأى أنه «لم ينفرد فيه الجيش بقرار الانقلاب، ولم يتسلم الجيش فيه السلطة مباشرة بعد إزاحة (الإخوان)»، معتبرا أن فشل الإخوان كان إيذانا باستحقاق مطالبة الشعب بالتغيير!

ولا ينقضي العجب إذا ما رجعنا للوراء أيضا لنرى أن وضوح الرؤية لدى الدكتور في الاختلاف الكبير بين الانقلابات التقليدية وبين الواقعة الجديدة في مصر حيث يؤكد أن ثمة تجاهلا لـ«التغير الكبير الذي أتى به عامل الثورة الشعبية، وهو عامل مستجد لم تعرفه مصر في تاريخها من قبل. فرض هذا التغير إطارا سياسيا، يختلف كثيرا عن ذلك الذي كان سائدا في زمن الانقلابات»، ويؤكد بطريقة تستدعي كل العجب أنه «يمكن تعريف الانقلاب العسكري بأنه عمل تآمري سري، ينفرد الجيش فيه بقرار الإطاحة بالسلطة السياسية، وينفرد أيضا بالاستيلاء على هذه السلطة. وهذا لا ينطبق على ما حصل الأربعاء الماضي» («الحياة»: الأحد 7 يوليو 2013). لكنه عاد لنسف هذا كله متسائلا بطريقة عاطفية لا علاقة لها بالتحليل السياسي: «كيف انتهت هذه الثورة إلى ضابط عسكري برتبة فريق أول يقف ببزته العسكرية ويقرر عزل رئيس منتخب مهما كان رأينا فيه، ملغيا بذلك، وبجرة قلم، ملايين الأصوات التي انتخبت هذا الرئيس؟!» («الحياة»: الأحد 18 أغسطس/ آب 2013). ومع أن كل من يعرف الواقع المصري بمكوناته وصعود الإخوان فيه المبني على تحالفات استثمرت كره نظام مبارك وليس لكونها اللاعب الأكثر شعبية كما يشاع، يدرك أن هذه المليونيات المجانية تشبه إلى حد كبير مليونيات قناة «الجزيرة» التي يعتبرها الدكتور خالد، وهذا جزء من أزمة المصدر لديه، «إنجازا كبيرا لأنها غيرت وجه الإعلام العربي في شكل غير مسبوق، ووضعت اسم قطر على الخريطة الدولية» («الحياة»: الأحد 30 يونيو 2013).

والحال أن مظلومية الإخوان السياسية لدى الذوات السياسية للدكتور خالد الدخيل مرتبكة للغاية رغم أن إسقاطهم على هذا النحو الذي يراه أنه غير «ديمقراطي» أو «قانوني» هو نبوءة سابقة حيث كتب مقالا متسائلا بحسرة: «ماذا يحدث لمصر» («الحياة»: الأحد 31 مارس/ آذار 2013)، حين تصاعد تزمت الإخوان واستحواذهم السياسي لكل الكعكة المصرية حيث رأى أنه: «لا يمكن تحقيق ذلك إلا بمواجهات سياسية وفكرية وقانونية مع (الإخوان) داخل قبة البرلمان وفي المسجد وقاعات الدرس وفي المحافل الفكرية والإعلامية، ومن الأفضل أن يحصل ذلك و(الإخوان) في سدة الحكم وليس خارجه، وذلك بدلا من السجال السياسي معهم لأهداف سياسية آنية ومباشرة، لكن الثورة دخلت مرحلة انسداد سياسي تصعب مغادرته على يد القوى السياسية الحالية، وبالأدوات التي تمتلكها»، هل يشير الدكتور هنا إلى تدخل تلك البزة اللامعة العسكرية والنظارات الشمسية من دون تدخل من القوى السياسية، وهو ما لم يحصل أصلا؟!

الأكيد في فهم المشهد هو ما كان يعتقده الدخيل ذات مرة («الحياة»: الأحد 26 مايو/ أيار 2013) حين تساءل: «هل كان هناك حقا ربيع عربي؟ إنه بعد فوز (الإخوان)، دخلت الثورة في نفق مظلم، يزداد كل يوم ظلمة وإرباكا. بات واضحا أن القوى التي استولت على الثورة في مصر، وأولها (الإخوان المسلمون)، أفرغوا الثورة من محتواها، وأدخلوا مصر في حال توهان سياسي واجتماعي لا أحد يعرف كيف ينتهي»! يبدو أن هذا التوهان السياسي أصاب الدكتور من حيث لا يدري بسبب ضغط وسلطة الحشود والجماهير التي كانت تؤمل في دولة الخلافة الإخوانية في حين أن أقصى ما يطلبه الإخوان الآن وبالعنف هو العبور الآمن من دون محاكمات على الجرائم المرتكبة والأسلوب الفاشي لإدارة الحكم الذي للأسف تغيب معه أي نظرة أخلاقية لأنه يحاصر المراقب بين الخيار الأقل سوءا وهو يذكر بمبادرات إطلاق سراح المتورطين في الإرهاب، بينما السكوت عن حقوق الأقباط والأقليات.

أعتقد أن جزءا كبيرا من التيه المعرفي الذي أصاب الدكتور خالد مرتبط أصالة بطبيعة تصوره للتحولات الجديدة على المشهد ككل وبالأخص مشهد التيارات الإسلامية، رغم تماسك نظريته السياسية وموقفه الصلب تجاه الجانب المدني وعلمانية الدولة والتي لم يقرأها الذين زفوه طويلا في عرس «المظلومية» الإخوانية. قبل أكثر من عام حيث كانت الثورة في بدايات تشكلها وكانت الحماسة لها منقطعة النظير فكر الدكتور خالد خارج الصندوق بقوله: «السؤال المركزي في هذا يقول: هل يمكن أن تكون الدولة ديمقراطية وهي على علاقة ما بالدين، وأن يكون هذا الدين عنصرا رئيسا، إن لم يكن حاكما لرؤية الدولة السياسية والتشريعية؟ الإشكالية هنا ليست في الدين بذاته، ولا في الدولة بذاتها، وإنما في اجتماعهما معا على صعيد واحد، وهو الصعيد السياسي والتشريعي للمجتمع، حيث ينبغي لهما أن يجتمعا بالنسبة لطرف، ولا ينبغي لهما أن يجتمعا بالنسبة لطرف آخر»! ومع جوهرية هذا السؤال من ناحية سياسية إلا أن إجابة الدكتور تؤكد ما ذكرته من أزمة فهم التحولات الجديدة، فالواقع يثبت أن هناك تحولين متضادين لرؤية الدكتور يتم طرحهما بكثرة على صعيد البحث الآن عن الإسلام السياسي، حيث انفتاح التيارات السلفية على مضامين سياسية جديدة محمولين برافعة سلمية يتم استمدادها من إرث «طاعة ولي الأمر» على حساب عودة الإخوان لمربع العنف السياسي والمسلح وهو ما يعرف العودة إلى «المعالم» التي أسستها مرحلة التثوير الإخواني لسيد قطب والتي تفاقمت الآن كنتاج لأزمة بنيوية هيكلية تعيشها الجماعة بعدما غلبت مبدأ الحشد والتنظيم، وهو ما حمل الباحث المتخصص في تحولات الإخوان الجديدة الصديق الراحل حسام تمام على التنبؤ بتفكك التنظيم بعد أن تسلفت كوادره الداخلية وترهلت بنيته التنظيمية، وذلك في بحثه عن تسلف الإخوان وكتابه المهم «تحولات الإخوان المسلمين.. تفكك الآيديولوجيا ونهاية التنظيم».

والحال أن الموقف من الجيش والعسكر أيضا هو موقف ارتدادي لدى المراقبين للحالة المصرية من الخارج، ولا سيما من الخليج بسبب ارتباك الفهم حول مفاهيم الأمن والعسكر والقمع تعود لإرث صدامي متخيل بسبب خطابات سياسية ما زالت مرتهنة لخندق المعارضة، ومن يستحضر هذا الهلع من مفهوم الأمن في الحالة المصرية لا يعرف طبيعة ولا تركيبة مكونات الشعب المصري والعلائق ما بين الجيش والشعب والإرث التاريخي لهذه العلاقة، ومع ذلك فهذا الابتسار لهيمنة الجيش يدل على جهل بالواقع والسياسة معا، فالمرحلة الانتقالية ستفرز بعد انتهاء مرحلة مواجهة الإرهاب والعنف حكومة منتخبة بعيدا عن تدخل الطرف الأقوى وهو الجيش الذي تسنت له فرصة ابتلاع الحالة السياسية لكنه نأى بنفسه عن ذلك، كما أن المعارضة السياسية ستعود إلى إعادة مفهوم حق الاحتجاج ومعنى السلمية بعيدا عن «الحشد» ولعبة الأرقام وسيبدو الجيش مدعوما بتأييد شعبي غير مسبوق في تاريخ الدولة المصرية مما يؤهله لممارسة رقابة على أداء الحياة السياسية كحارس للأمن القومي المصري. هذه التركيبة للمشهد المصري المأمول تتطلب الخروج من الأزمات الاقتصادية، وهي حالة تشبه التقدمية التصحيحية التي قام بها محمد علي حين انفصل عن جسد الخلافة لكن بمواصفات ومعايير مختلفة، حيث إن التاريخ لا يعيد نفسه أبدا ولو كره المثاليون.. كل التقدير والمحبة للدكتور خالد الدخيل.