سلطة سياسية!

TT

هناك سيارة من سيارات الأجرة «التاكسي» بالعاصمة المصرية القاهرة كتبت عليها من الخلف عبارة فيها المغزى العميق البالغ الحكمة. تقول العبارة «اللي فاهم حاجة يفهمني». المصريون تحديدا يرددون ذلك كثيرا هذه الأيام، وهم يراقبون التطورات والتغيرات في المواقف والأفراد والمواضيع. محمد مرسي كان مسجونا وحسني مبارك كان رئيسا، ثم أصبح مبارك سجينا وصار محمد مرسي رئيسا، ليعود محمد مرسي سجينا ويصبح حسني مبارك طليقا.

قادة «الإخوان المسلمين» الذين حبسوا أنفاس البلد لأكثر من أربعين يوما في اعتصامين كانا مليئين بالأهازيج والأناشيد والملاحم الخطابية التي أقسم فيها قادة الجماعة على أن يفدوا بأرواحهم الشرعية ومقابل عودة محمد مرسي للحكم، وخرج على المسرح في «رابعة» الكثيرون ليرووا مشاهد «خزعبلاتية» أقسم فيها أحدهم بأنه رأى سيدنا جبريل عليه السلام يبشره «بالنصر» الكبير على العسكر، وأنه رأى في منام عظيم محمد مرسي يؤم الصلاة وخلفه الرسول عليه الصلاة والسلام ويعده بالنصر. وما هي إلا أيام حتى انفض «السيرك» الذي كان منصوبا في رابعة العدوية، لتبدأ ملاحقة القادة، فيجدونهم مختبئين ومتنكرين في أشكال مثيرة للدهشة والاستهجان والغرابة، وبدأت التسريبات للتحقيقات الأمنية مع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ومع الداعية «الأسطورة» صفوت حجازي الذي صورته قناة «الجزيرة» في مقابلات مع المذيع أحمد منصور (وهو المعروف بتأييده العظيم للنهج الإخواني) على أنه ملهم وقائد ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، والرجل علاقته بثورة يناير كعلاقة شعبان عبد الرحيم بتاريخ الصين، ولقد سرد من الأكاذيب والأساطير عن ثورة يناير الشيء الكثير في حلقات أقل ما يقال عنها إنها معيبة.

والداعية صفوت حجازي سربت عنه اعترافات ينفي فيها علاقته تماما بـ«الإخوان المسلمين»، ويقسم على ذلك ثلاث مرات، ويقول إنه ليس من مؤيدي مرسي أبدا، وإنه لا يوافق على إعادته للرئاسة، وإنه لو علم بوجود سلاح في رابعة العدوية لما حضر للمكان (رغم أنه كان يحمل السلاح تحت ملابسه كما هو معروف)، وطبعا الكل يعلم تماما آراء صفوت حجازي «العلنية» في محمد مرسي وفي السلاح وفي «الإخوان المسلمين»، فهو كان يرددها كالوصلات الغنائية بشكل متواصل على مدار الأيام، وموجودة مقاطعها بشكل واضح على شبكات التواصل. ومع هذه الفوضى في الأحداث داخل مصر وفتح باب الإرهاب على مصراعيه بحجة الدفاع عن الشرعية، استغل نظام بشار الأسد المجرم فرصة انشغال العالم بما يحصل في مصر ليقوم بمجزرة مهولة جديدة في حق شعبه الأعزل، ويطلق سلسلة من الصواريخ المحملة بغاز السارين الكيماوي في ساعات الصباح المبكرة على الغوطة الشرقية في ريف دمشق، ليسقط أكثر من 1800 قتيل جلهم من الأطفال والنساء القاطنين في ملاذات صغيرة مؤقتة يهربون فيها من ديارهم في المدن الأخرى التي دمرت على أيدي أجرم الأنظمة الدموية في العصر الحديث. وكل هذا المشهد حصل بوجود وفد الأمم المتحدة في دمشق، وهو المكلف معاينة وإثبات ما إذا حصل استخدام للسلاح الكيماوي في خان العسل أم لا.

فعل الأسد ما فعل وأقدم على هذه المذبحة الجديدة وهو يعلم تماما أنه لن يمس من أحد لقناعته التامة بأنه يشكل «الفزاعة المطلوبة» لإيقاد الحرب على الجماعات المسلحة من الطرفين، سواء من المؤيدين أو من المعارضين لوجوده، ويؤمن إطالة مدى الصراع بأطول شكل ممكن حتى يقضي الفريقان المتناحران بعضهما على بعض، وهذا هو المطلوب ولا ريب. كل هذه المشاهد تحدث وسط قناعة بأن بشار الأسد باق بسبب قناعة المجتمع الغربي والروسي والإسرائيلي بأنه خير حارس لمصالحهم، وخير من يبيع بضاعة الممانعة والمقاومة لإلهاء الشعوب.

على الرغم من التداخلات المزعجة هذه فإن الحقيقة والحق لا بد أن ينجليا، لأن الأمور اتضحت للكل، وبدأت المسائل تُعرف وتظهر حقيقة الأشخاص، وهذا ينذر بحسم الأمور قريبا جدا.