خوف الطبيب.. والملاذات الطبية الآمنة

TT

لا تزال قضايا خوف الطبيب من عواقب ونتائج عمله الطبي تلقي بظلالها على حياة الطبيب نفسه والممارسات الطبية في المستشفيات والعلاقات بالمرضى والتكاليف المادية للرعاية الطبية. وكانت البروفسورة ميشيل ميلو، أستاذة القانون الطبي والصحة العامة في كلية هارفارد للصحة العامة ببوسطن، قد نشرت عدة دراسات حول هذه الجوانب. وفي إحدى دراساتها السابقة لاحظت أن ثمة انتشارا واسعا لممارسة الأطباء «الطب الدفاعي» (defensive medicine) تحت ضغوط الواقع الفعلي لشكوى المرضى من أي ممارسات طبية لا ترقى إلى ما يأملونه من نتائج للخدمة الطبية المقدمة لهم، وتبعات ذلك العملية والأدبية والأخلاقية والمادية على الأطباء والمستشفيات التي يعملون فيها. كما ذكرت في دراسة سابقة لها مع فريق من الباحثين من جامعة هارفارد أن التكلفة الإجمالية لممارسة الأطباء في الولايات المتحدة لـ«الطب الدفاعي» فاقت في عام 2008 مقدار 56 مليار دولار، وأنها زادت خلال السنوات الخمس الماضية نتيجة للزيادات في دعاوى شكوى المرضى ومطالباتهم بالتعويضات المادية، وهي مبالغ ترهق ميزانيات الرعاية الطبية بلا دواعي طبية فعلية.

وضمن عدد 14 أغسطس (آب) الحالي لمجلة «الشؤون الصحية» (Health Affairs)، عرضت البروفسورة ميلو وفريق البحث من جامعة هارفارد نتائج دراستهم حول خوف الأطباء من رفع الدعاوى القضائية عليهم من قبل المرضى. ولاحظ الباحثون أن الأطباء القلقين من هذا الجانب يلجأون أكثر لتنفيذ طلب إجراء المرضى لفحوصات طبية إضافية، ويكونون أكثر لجوءا إلى طلب تحويل المرضى إلى أقسام الإسعاف بالمستشفيات، وذلك تجنبا لأي إحراجات أو اتهامات بالتقصير في عملهم الطبي حين اكتشاف أطباء آخرين أي أمراض أخرى لدى المرضى لم يتنبه لوجودها أولئك الأطباء. وقالت البروفسورة ميلو «يعلم الجميع أن ممارسة الطب الدفاعي آخذة في الانتشار، ولكن أحدا لا يعلم كيفية السيطرة عليه وضبطه، والمشكلة أنه يتسبب في ارتفاع تكاليف الرعاية الطبية».

ولاحظ الباحثون أن «الطبيب العادي» (average physician) يقضي تقريبا 11 في المائة من عمر ممارسته للطب في ظل مطالباته قانونيا في دعاوى قضائية عالقة حول الشكوى من ممارساته الطبية من مرضى سابقين، وهو وقت طويل جدا مقارنة بأي من المهن والوظائف الأخرى. وأفادت البروفسورة ميلو في نتائج دراستها التي شملت أكثر من 3400 طبيب، بالقول «لقد قال لي بعض الأطباء إنه إلى جانب الحزن لسماع خبر وفاة أمه أو أبيه فإن معايشته أيام وشهور المطالبات القضائية لهم في ادعاءات الممارسة الطبية الخاطئة هي أسوأ التجارب التي مروا بها في حياتهم». وهو ما لاحظته أيضا دراسات أخرى عن عمق التأثيرات النفسية والمهنية والأخلاقية التي يتركها رفع تلك القضايا على الأطباء، وذلك من نوع الرغبة في ترك المهنة وملامة النفس حول اختيار دراسة الطب وغيرها.

وإزاء انتشار ممارسة الطب الدفاعي في أوساط الأطباء حماية لأنفسهم من أي احتمالات لارتكاب أخطاء غير مقصودة أو عدم اكتشاف أمراض خفية لدى المرضى، عرضت البروفسورة ميلو ضرورة وضوح الهدف وهو العمل على «إصلاح المسؤولية الطبية» في المستقبل وتعريفها بطريقة واضحة ووضع حدود لها في ما يُسأل الطبيب عنه ويقع ضمن مسؤولياته أمام معالجة مرضاه ونتائج ذلك، بطريقة تضمن سلامة تقديم الخدمة الطبية وأمانها للمرضى وتضمن أيضا تخليص الأطباء من ممارسة الطب الدفاعي.

من جانبها، علقت مايورا كالسين، المديرة المساعدة للسياسات الطبية في المركز الأميركي للتطوير (Center for American Progress) بالعاصمة واشنطن بالقول «الدراسة الجديدة تسلط الضوء على الحاجة إلى إجراء الإصلاحات الوطنية للمسؤولية الطبية (national medical liability)». ودعت إلى وضع «إرشادات الممارسة الطبية المبنية على البراهين العلمية» (evidence-based practice guidelines) وجعلها هي «الملاذات الآمنة» (safe harbors) في الممارسات الطبية. وباتباع الطبيب لتلك الإرشادات في ممارساته الطبية يكون قد قدم للمريض أعلى درجات إتقان الرعاية الطبية للمرضى والتي لا يُمكن الطعن فيها ولا اتهام مطبقها بالإهمال أو التقصير في أداء الخدمة الطبية للمريض. وأضافت «نحن ننصح بالملاذات الآمنة لأنها ستساعد في تحسين رعاية المرضى وسوف تساعد الأطباء في ممارسة عملهم الطبي بشكل أفضل».

وتقوم «الوكالة الاتحادية لرعاية البحوث الصحية والجودة» بالولايات المتحدة حاليا بدعم برنامجين رائدين لتحسين الرعاية الصحية، أحدها هو «برنامج الملاذات الآمنة» والثاني هو «برنامج التواصل والقرار» (communication and resolution). وفي الأخير تقوم المستشفى بالكشف الاستباقي للأخطاء الطبية (proactive disclosing errors) والاعتذار للمرضى وتقديم التعويضات لهم بدلا من الانتظار إلى حين رفع المريض دعوى قضائية على ما يعتقد أنه أخطاء طبية وقعت عليه خلال تلقيه الرعاية الطبية في المستشفى.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]