مدن الصيف : الشرق رمادي باهت

TT

بالنسبة إليّ، بدأت حرب البلقان صيف 1973. عندما وصلت إلى بلغراد وليس معي أجرة التاكسي بالدينار اليوغوسلافي. كان ممنوعا الدخول ومعك أي عملة محلية في بلدان أوروبا الشرقية، وكان ممنوعا إدخال أي عملة أجنبية. لذلك حملت فقط ما يعرف بالشيكات السياحية. ولم يكن هناك مكان أصرفها. وفي النهاية طلبت من سائق التاكسي أن ينقلني إلى السفارة اللبنانية، حيث مضيفي السفير منير تقي الدين، السبب الأول لزيارة بلغراد.

كان السائق في عرض جزيرة بريوني التي يقيم فيها المارشال تيتو وفي طول الأدرياتيكي. ولما وصلنا طلبت منه التمهل قليلا لكي أذهب وأعود بالأجرة. لبط الأرض كما سيلبط سلوبودان ميلوسوفيتش البلد بعد سنين. كانت الأولى بالقدم اليسرى ثم باليمنى فارتجت الأنحاء بالثقل الصربي، ونزل السفير تقي الدين بنفسه. وكان رحمه الله في قامة العمالقة فلما رآه السيد بريوني - أدرياتيكي تبسم، أولا من الخوف، وثانيا لتسديد الأجرة وخرق قانون الحوالات المالية في الفردوس الشيوعي. كنت أقوم يومها برحلة في أوروبا الشرقية بدأتها في صوفيا، بلغاريا. وكنت قد طويت العقد السابق أسافر في غرب أوروبا فقررت أن أكتب للناس عن الجزء المجهول والمحظور من القارة. سوف يكون ذلك أكثر إثارة، لأن الناس تعرف أوروبا الغربية وتسافر إليها ساعة تشاء، أما العالم الشيوعي فكان مغلقا، تحيط به الألغاز والأساطير وشيء من الرهبة. فأنت هنا في عالم «الأخ الأكبر» الذي تخيله جورج أورويل نقلا عن ألمانيا وسوف تراه هنا في صوفيا. صور الزعيم وملصقاته تملأ الأمكنة وأصوات التمجيد تخرج من مكبرات الصوت في الحدائق.

كانت ثمة مباريات في كرة القدم فرأيت عمال الفندق يجلسون في البهو لمتابعتها مع النزلاء. كانت هذه أول مرة أشهد صورة من المساواة التي أقرأ عنها. وكانت صوفيا لا تزال يومها مدينة صغيرة، فائقة الهدوء كأنها خالية من السكان. ويجب أن يذكر المرء أن الحرية كانت غائبة في أوروبا الشرقية بوضوح وكذلك كان الأمن حاضرا بوضوح. المؤسف أنه كانت هناك أيضا مساواة في الشح والقلة وعبادة الرفيق جيفكوف، حامي الأمة، حارس الوطن، مفكر الحزب، وحامل الشعلة اللينينية، وصاحب كل هذه الملصقات. كان الرفيق جيفكوف، المشارك في عبادة نفسه، مصدر ثروة روبرت ماكسويل البريطاني التشيكي الأصل، الذي تولى مقاولة الدعاية للسياسيين الشرقيين. كان يأخذ منهم أرطال المال لقاء أطنان الورق ثم يعود إلى لندن ليصرفها على موائد الروليت. قيل إنه انتحر بأن رمى نفسه من يخته في جزر الكناري، وقيل إنه رُمي، وقيل إنه هوى أخيرا بثقل نفسه.

كانت أوروبا الشرقية في الزمن الشيوعي بلادا رمادية تحلم عبثا بالنجاح. خرجت من حرب عالمية طاحنة هزمها فيها هتلر وأمَّن لها النصر ستالين. أي حظ هو هذا الحظ: المحتل هتلر والمحرر يوسف ستالين. وفي بدايات السبعينات كان التثاقل لا يزال واضحا في الشرق فيما الغرب يزدهر ويتقدم. وكانت بلغراد، عاصمة تيتو، المدينة الوحيدة التي تحصل فيها على صحيفة أجنبية وعلى نسخة قديمة من «التايم» لم تعثر على من له القدرة على شرائها. لا بالدينار، ولا بالعملة الصعبة. إلى اللقاء.