الإعلام بين الإنارة والإثارة

TT

يملك الإعلام في صيغه الثلاث (السمعي، البصري، المقروء) أن يكون أداة توعية وتنوير مثلما يملك أن يكون سبيلا إلى الإثارة والتعتيم. يستهدف مطلب الإنارة الاقتراب، أقصى ما يكون الاقتراب ممكنا، من المطلب العسير في القضايا التي تتصل بالوجود البشري: مطلب الموضوعية والتزام الحياد التام. بيد أن الاقتراب من المطلب المذكور يكون ممكنا متى جرى سلوك الطرق المتعارف عليها (السعي في تحري الدقة في الأخبار، والاجتهاد في طلب مصادر مختلفة - وبالتالي متناقضة - ومعارضتها بعضها بالبعض الآخر، اعتبار المعطيات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والآيديولوجية موجهات يتعين أخذها بعين الاعتبار ومن ثم التسلح بالحس النقدي، وبالتالي عدم الانسياق خلف السهولة والحماسة في تقصي الأخبار وما شابه، هذا من الأمور المقررة في العمل الصحافي الجدير بالثقة والحامل على الاحترام والتصديق). أما أن الموضوعية والحياد التامين أمران عسيران، فهذا مما تقضي به الطبيعة الإنسانية، وإذا كانت الكاميرا وآلة التسجيل لا تملكان بلوغ المطلب كلية، ما دامت اليد البشرية هي التي تحركهما وما دام الإنسان بما لديه من رغبات ونوازع سيكولوجية واجتماعية وآيديولوجية هو الذي يوجههما، فما بالك بالكاتب يمسك بالقلم إذ تختفي الصورة ويسكت صوت التسجيل الحي والأثر المباشر؟ يقال إن الصورة تفيض بالحياة وإنها تنطق بما يعجز القلم عن التعبير عنه وإنها تختزل في ثوان معدودات ما يعجز القلم عن تبليغه في صفحات طويلة. غير أن هذا التقرير يظل مظنة للشك والتردد متى تبينا أن في استطاعة الكاميرا الواحدة، إذ تنتقل من يد إلى أخرى، أن تنقل لك التعبير عن الشيء ونقيضه معا (دعك من الكذب والتزييف اللذين يجعلان المجرم مظلوما والمعتدى عليه ظالما متعديا يستحق ما ناله من عنف أو لحق به من شر). غير أن الحكم بالتعذر المنطقي لتحقق الموضوعية والحياد التامين في مجال الإخبار لا يعفي من الاجتهاد في الالتزام باعتبار الإعلام أمانة والصدق معيارا لا يجب التفريط فيهما - وقديما قالت العرب إن حبل الكذب قصير، والحبل لغةً هو السبب والوسيلة، والإفادة هي أن عمر الكذب يظل دوما عمرا قصيرا وأن أمره يفتضح ولو بعد حين.

يدعوني إلى هذا القول الذي يراه البعض قولا مبتذلا مكررا (الموضوعية، والإعلام، والحياد)، ما آلمني مما وجدته من بعض وسائل الإعلام العربية (والغربية أيضا مع اختلاف الدواعي والموجهات لدى هذه الأخيرة) من جنوح في تنكب طريق الحق والصواب وتغييب الحس النقدي الذي يحمل على المساءلة والمقارنات الواجبة في الحديث عن جملة الحوادث المؤلمة التي كانت أرض الكنانة مسرحا لها منذ الأيام القليلة التي أعقبت عيد الفطر: «رابعة العدوية»، «النهضة»، «الأزبكية»، الكنائس، المحاكم، مراكز الشرطة، المتاحف، مقتل الجنود والضباط في صحراء سيناء ومدنها. في تعليقات كتاب الأعمدة في بعض الصحف العربية (وحديثي معني ببعض الصحف المغربية خاصة، أو التي تصدر في المغرب، والفرق عندي قائم موجود بين النعتين)، وفي الافتتاحيات التي تحمل توقيع أقلام لا نزال نكن لها الاحترام ونحمل لها التقدير اعترافا بجديتها وتقديرا لشجاعتها في الأغلب الأعم من الأحوال. لكن الزلل يلازم الخبر بطبيعته، كما يقول ابن خلدون، ولست أريد أن أذكر بالاسم صحافيا ولا صحيفة بعينها. لا أفعل، ترددا ولا جبنا، وإنما لأنني، كما قلت، لا أزال أحمل أصحاب تلك الكتابات محمل الصدق والجدية. وإنما المآخذ عندي: غياب الحس النقدي من جهة، والذهول عن المقصد الأسنى، مقصد الإنارة، من جهة أخرى، والاستسلام لمطلب الإثارة حينا ثالثا، وتوخيا للسهولة حينا رابعا، ودغدغة لعواطف تؤججها - مثلما يثير حنقنا مناظر العنف الآثم والعبثي.

لماذا انساق بعض كتابنا، من رجال الصحافة، وراء الإثارة، أو، بالأحرى، كيف انساقوا وراءها في الكثير مما كتبوه عن مصر، فجعلهم يصرون على القول إن ما وقع في مصر انقلاب على الشرعية وليس ثورة أرادها الشعب من جهة وواكبها الجيش من جهة أخرى؟ ولماذا يغفلون عن حقيقة بسيطة يقررها الفكر السياسي، وهي أن الدولة لا تقوم ولا يتصل وجودها إلا بمقدار ما تحرص على صيانة مؤسسات الدولة وحماية الممتلكات العامة والخاصة؟ وكيف يغفلون عن حقيقة بسيطة أخرى تلازم ما قلناه، فهي تكسبه الجوهر والمعنى: إن الدولة، من حيث هي تجل للعقل وتعبير عن الأمن والاستقرار، هي من يحق لها (دون الجماعات والأفراد احتكار العنف، وبالتالي استعمال السلاح في وجوهه التي يشرع لها القانون المدني). أما متى تجاوز الأمر ذلك إلى مبادرة رجال الأمن باستعمال السلاح ومهاجمة مقرات الأمن، وتعطيل عمل سيارات الإسعاف ورجال المطافئ، بل وإحراق سيارات إطفاء الحرائق، فإن الأمر يغدو سعيا نحو اجتثاث الدولة من جذورها. أما مهاجمة المحاكم والمتاحف ودور العبادة (يتعلق الشأن، فيما بلغنا بتدمير ومحاولات تدمير وإشعال النار في أزيد من 50 كنيسة في مختلف مناطق مصر)، وأما مهاجمة مراكز الأمن بالمدافع وقتل ثم التمثيل بجثث رجال الأمن، فشأن آخر. هنالك خروج تام مطلق من عالم السياسة والاعتراض والاحتجاج ودخول في سراديب مظلمة وفتح للباب على عالم الفتنة والفوضى. ربما كان في الأمر شطط من رجال الأمن في استعمال للعنف (والأمر يستوجب التحقيق وشجاعة تحمل المسؤولية ومعاقبة من يقضي التحقيق بإسرافه في اللجوء إلى إطلاق النيران، حيث كان في الإمكان تجنب ذلك. ولكن الأساس في قيام الدولة وتحقق معناها يظل، كما قلنا، قائما في قدرتها على بسط هيبتها كاملة، وأساس ذلك احتكارها للعنف شريطة مراعاة القوانين الضابطة في ذلك. ونحن في غنى عن القول إن المهمة الأساس للإعلام الذي ينشد التنوير أن يكون إعمالا للقلم من أجل شرح أوليات الوجود السياسي الطبيعي وحقيقة الدولة ومعنى الحفاظ على مؤسساتها وعلى حفظ الأمن أولا وأساسا. أرجع إلى ما قرره فقهاء الفكر السياسي في الإسلام، فأجد أن الشرط الأول في شرعية الدولة ونظام الحكم يرجع إلى القدرة على بسط الأمن وإشاعته. وأرجع إلى ما أقرؤه عند فلاسفة العقد الاجتماعي وأهل الفقه السياسي الحديث فلا أرى ابتعادا عن هذا المعنى، بل لعلي أزعم أنني أجد عندهم ما لست أجده عند فقهاء الفكر السياسي في الإسلام من حرص على تثبيت الأمن بكل وجه وسبيل. لعلي أكتفي في الأخير بتذكير من أشرت إليهم من كتّاب الرأي ومحرري الأعمدة والافتتاحيات بالرجوع إلى ما يقرره ماكس فيبر في صورة الدولة الحديثة وشروط تحققها وهم يعلمون ذلك كامل العلم، ولكن ما ذكره حكيمنا ابن خلدون من الأسباب التي تحمل على الكذب وما في معناه.