هشاشة مقولة «الانقلاب»

TT

قد تبدو الثورات العربية في ظاهرها مجرد أحداث من الوزن الثقيل، أطاحت بأنظمة سياسية صعبة الخلع. غير أنها في الباطن والعمق زلزال شمل الكثير من المقولات والمسلّمات والأفكار والمعاني، وقد فاتنا أن عناصر أساسية في واقع الممارسات السياسية والثقافية، تغيرت وباتت تخضع لمنطق مختلف.

ومن المهم إيلاء هذه النقطة الوعي اللغوي والفكري اللازم حتى لا نسقط في متاهة الخلط من خلال توصيف مظاهر وأفعال جديدة من نتاج مرحلة ما بعد الثورة، باللجوء إلى معجم من المعاني والأوصاف يبدو مهترئا وضعيف الصلة والدقة في علاقته بالواقع الجديد المختلف الذي أفرزته الثورات العربية.

طبعا، لا تتسع هذه المساحة للإتيان على معان ومقولات كثيرة. لذلك، سنعتني بمقولة تكررت كثيرا منذ تاريخ عزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي وهي القول بقيام الجيش المصري بانقلاب على حكم «الإخوان» الذين يمتلكون الشرعية الانتخابية للحكم.

وفي الحقيقة، يندرج إطلاق «الإخوان» في مصر، إضافة إلى بعض وسائل الإعلام، وصف «الانقلاب» ضمن تكتيك سياسي واتصالي، يخاطب الخارج قبل الداخل.

لقد حاول «الإخوان» استثمار المدلول السلبي لمقولة الانقلاب واللعب على التمثلات السلبية التي يحملها المخيال السياسي المجتمعي العالمي ضد ظاهرة الانقلابات العسكرية التي أصبح رفضها محل إجماع دولي. لذلك، فإن مروجي مقولة الانقلاب في الحالة المصرية، إنما يعزفون على وتر حساس جدا. كما أنهم يدركون المفعول السحري السلبي لهذه المقولة في سياق دولي، يروج بدوره لأنماط سلوكية وثقافية جديدة تقوم على المدنية وعولمة الديمقراطية وحصر الفضاء السياسي للأحزاب ولمبدأ التداول بين النخب السياسية على الحكم وفق عملية انتخابية شفافة. وهنا، نفهم لماذا كانت تصريحات دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية غائمة ومترددة وتميل إلى الموقف السلبي من تصرف الجيش المصري أكثر منه إلى الموقف الإيجابي. ومن ثم يمكن القول إن «الإخوان» في مصر والفضائيات الداعمة لهم، قد نجحوا نسبيا في رمي الطعم وإحداث انقسام من نوع آخر حول الانقلاب من عدمه.

ولكن بعيدا عن التجاذبات السياسية وتحديدا الآيديولوجية، فإن الموضوعية تقتضي تحديد مجموعة المغالطات التي تستند إليها مقولة الانقلاب. ذلك أن الانقلاب ظاهرة معروفة الشكل والخصائص والأهداف، وهناك إجماع حول ما تنطبق عليه خصائص الانقلاب وعلاماته. فالانقلاب بالمعنى التقليدي، وكما عرفته كثير البلدان، يكون مفاجئا ومن دون مقدمات، وهو فعل يقوم على الغدر والتآمر والخديعة، وأيضا المغامرة لأن عدم النجاح في الانقلاب يعني الموت بالنسبة إلى محاوليه. إضافة إلى أن الانقلاب يهدف إلى الاستيلاء على الحكم وإزاحة الرئيس الحاكم. ولكن هذه العلامات الخاصة بأي عملية انقلاب عرفها العالم غير متوافرة في الخطوة التي أقدم عليها الجيش المصري، ولا نعتقد أن ذاكرة العالم ضعيفة إلى درجة أن تنسى التحذيرات التي قدمها الجيش والرسائل المتواترة التي قدمها للفرقاء السياسيين والأكثر من مهلة التي منحت للوصول إلى اتفاق. إضافة إلى رفض الرئيس السابق فض الانقسام وإجراء استفتاء شعبي. والأهم من هذا كله، طلب الفريق السيسي من الشعب المصري تفويضا فنزل حوالي 25 مليون مصري إلى الشارع.

فهل عرف العالم انقلابا عسكريا يقوم على تفويض شعبي مسبق؟

إن الذين نفخوا في مقولة الانقلاب إنما عبروا عن العنف الآيديولوجي للمواقف الدينية المتطرفة والمتشددة وهو عنف يسلب الوعي والعقل وبارع في تجييش العواطف الدينية.

لقد وصل «الإخوان» إلى حكم مصر الحلم الذي راودهم ثمانية عقود، ولكن عندما فشلوا وعبر جزء كبير من الشارع عن إرادته في رحيل الرئيس السابق عن الحكم، تشبثوا به إلى درجة العمى السياسي وتسببوا في إزهاق أرواح مئات من المصريين، وهو جرح غائر، من الصعب الشفاء منه بسهولة وسرعة. تلك هي هدية «الإخوان» لشعب مصر ولمن منحهم صوته.

أظهر «الإخوان» في مصر الذين طالما تغزلت أقلام كثيرة بأنها حركات ذات درجة عالية من التنظيم، أظهروا هشاشة على أكثر من صعيد: الوعي السياسي والقدرة على ممارسة النقد الذاتي وهشاشة في الذود الاستباقي عن الدم المصري.