مصر.. خيارات الخروج من الدوامة

TT

لماذا الاهتمام المكثف المتتابع بمصر وشأنها؟.. هذا سؤال لا نحسبه مناسبا، ذلك أنه قد أصبح من البدهي - سياسيا واستراتيجيا وثقافيا وحضاريا: أن لمصر شأنا كبيرا لا ينكره أو يتجاهله إلا جاهل أو شانئ.

لندع التاريخ المصري الطويل ولنركز على العصر الحديث. فمعظم الأفكار والمفاهيم والحراكات الاجتماعية والأدبية والسياسية التي سادت في الوطن العربي: كانت مصر منبعها ومصدرها: أفكار النهضة، ومفاهيم الاستقلال ومكافحة الاستعمار.. والحركات الشيوعية والاشتراكية واليسارية والإسلامية.. والحركة القومية العربية. نعم، إن خمائر الفكر القومي العربي قد تكونت في لبنان، لكن القومية العربية: كمد فكري سياسي انبنى عليه نظام اجتماعي وسياسي إنما كانت في مصر، ومنها امتدت إلى الوطن العربي كله.. صحيح أن حزب البعث العربي – في سوريا والعراق - حاول أن يكون «قاعدة» للقومية العربية العامة، إلا أن الآيديولوجيا الضيقة لهذا الحزب حالت بينه وبين الجماهير العربية الواسعة في المشرق والمغرب.. ومن عادة الناس أنهم يفضلون الاندماج في التيار الأعم، إلا في الآيديولوجيات الحزبية التي تشبه جحر الضب!

بل إن «الانقلابات العسكرية» التي ماجت بها المنطقة العربية موجا إنما بدأت بمصر في مطالع الخمسينات من القرن الماضي.. ثم تتابعت الانقلابات في العراق والسودان واليمن وليبيا.. إلخ.

لا داعي - إذن - لسؤال: لماذا الاهتمام المكثف بمصر وشأنها؟ فقد رأيتم - آنفا - مكانة مصر وقوة تأثيرها.

ومهما تشعب الاهتمام بالشأن المصري، وتنوعت صوره، فإن أهمه وأفضله وأجداه: شحذ الوعي والذهن، وتركيز الفكر والقريحة على «الإيجابيات» التي تعين المصريين «كلهم» على التعافي السريع من الأوضاع الراهنة المريضة المشحونة بمعدلات عالية جدا من «التوتر» المكهرب.. ونحسب أنه في طليعة «الإيجابيات» المطلوبة: «التفنن الفكري والسياسي» في ابتداع المخارج والحلول والصيغ التي تبني ولا تهدم، وتجمع ولا تفرق، وتيسر ولا تعسر، وتنجز ولا تعجز (من التعجيز).

ولعل من أبرز المخارج والحلول للأزمة المصرية الراهنة:

1 - أن يوقف المعارضون للنظام الجديد في مصر: الاعتصامات والمظاهرات: الآن.. الآن وليس غدا.. يقال لنا - ها هنا: إن من حق هؤلاء: أن يتظاهروا، إذ هو حق قد كفلته لهم أدبيات الديمقراطية ومقتضياتها.. ولا شك أن هذه حجة قوية عند الذين يؤمنون بـ«الديمقراطية»: بمفهومها الغربي، وهو مفهوم يشمل تكوين الأحزاب.. والاعتراف بـ«وجود المعارضة»، ومن خصائص المعارضة: حق التعبير.. وحق التجمع.. وحق التظاهر.. إلخ.. لسنا نناقش الموضوع من هذه الزاوية «ولا ندري كيف يناقشه الليبراليون من هذه الزاوية نفسها»؟! إنما نناقشه من حيث الواقع، ذلك أن «الحق» ذاته إذا ترتب على ممارسته إشكال عملي: تعين إعادة النظر في أساليب استعمال الحق: بمقياس المصلحة الأوكد والأعم.

2 - أن تسحب الإجراءات الاستثنائية من الشوارع والميادين (كالوجود العسكري والشرطي المكثف).. والمنطق السببي قوي جدا ها هنا. فقد سببت هذه الإجراءات بمواجهة المظاهرات والاعتصامات. فإذا انتفى السبب، أي تم احتجاب المظاهرات والاعتصامات: توجب أن ينتفي الإجراء الذي انبنى عليه.

ولما كانت هذه حلولا عملية «لا نظرية»، فإن نجاحها يتوقف - بلا ريب - على صدق وواقعية الطرفين: طرف وقف الاعتصامات.. وطرف إلغاء الإجراءات الاستثنائية. ثم إن هذا الصدق الموضوعي هو نفسه «مقياس الوطنية الحقة» ذاتها.. بمعنى أن وطنية الطرفين تدور مع هذه الصدقية: وجودا وعدما!

3 - التوافق الوطني العام على تغيير «المناخ النكد».. فليأذن لنا إخواننا المصريون أن نقول: إن الأزمة الراهنة في مصر قد أنشأت «مناخا نكدا»: مناخا نفسيا نكدا.. ومناخا فكريا نكدا.. ومناخا اجتماعيا نكدا.. ومناخا سياسيا نكدا.. مناخا: ملؤه الحقد والكراهية والتغيظ والتنقص والانتقام والثأر حتى لكأننا في ذات الظروف التي قال فيها المهلهل بعد مقتل كليب:

خذ العهد الأكيد علي عمري

بتركي كل ما حوت الديار

وهجري الغانيات وشرب الكأس

ولبسي جبة لا تستعار

ولست بخالع سيفي ورمحي

إلى أن يخلع الليل النهار

وإلا أن تبيد سراة بكر

فلا يبقى لهم أبدا آثار

والفارق أن مصر كلها «سراة بكر»، أي شعب واحد، فهل المطلوب إبادتها كلها وفق خيال المهلهل؟

وأول تدبير راشد في تغيير «المناخ النكد»: إيقاف الحملات الإعلامية السفيهة المتبادلة. فهذه الحملات الكريهة الفاجرة تبوء بـ70 في المائة من مسؤولية «تنكيد» المناخ العام في المجتمع المصري.

وليس يحق لعاقل عليم: أن يستهين بتأثير المناخ العام النكد في «المزاج المجتمعي العام» تأثيرا يترتب عليه: نزوع وسلوك وموقف وتصرف.. فالإنسان السوي - في حقيقة الأمر - كائن عماده «الصحة النفسية»، وهي صحة تقتضي تنقية النفس الإنسانية وحمايتها من العقد والعوج وشحنات الحمق والتهور، كما تقتضي تغذية ذات النفس بما يوفر لها العافية النضرة: من استقامة تفكير، واستواء شخصية، وصلاح بال، وتوسط في العمل والسلوك، ونظرة اعتدال للحياة والمجتمع والناس.

4 - إحداث «انقلاب مدني» في الإعلام.. نعم إن الإعلام ذاته الذي أسهم بحظ وافر في تكوين المناخ النكد يمكن أن ينتقل - سراعا - إلى وظيفة أخرى راشدة وإيجابية وبناءة. ويمكن تلخيص هذه الوظيفة في «تجديد الوعي الغريزي بالمصلحة العامة والخاصة» للذات والأهل والأولاد ثم المجتمع والدولة.

5 - «التجديد المنهجي التطبيقي للشعور الغريزي بالمصلحة الخاصة والعامة».

تكاد معايش المصريين تتعطل بسبب هذه الأزمة الطاحنة التي تدع الحليم حيران.. وإنما تتعطل معايش الناس لسوء الأحوال الاقتصادية العامة التي تزداد ترديا وسوءا على مدار ساعات الأزمة.. ولنضرب لذلك الأمثال التالية:

أ- انخفض سعر الجنيه المصري بنسبة 13 في المائة.

ب- هوى النمو العام إلى 2 في المائة.

ج- ضربت السياحة في مقتل.. وهذا متوقع في بلد تعمل سفارات عديدة فيه على حث مواطنيها على الرجوع إلى بلدانهم، فكيف بالذين لم يدخلوا مصر بعد؟!

د - صعدت الديون على مصر إلى نصف تريليون دولار (500 مليار دولار).

لو لم يكن في مصر إلا هذا التردي الفظيع في معايش الناس واقتصاد البلاد: لتعين على الأطراف جميعا: المسارعة إلى إنهاء الأزمة بموجب تغني الجميع أيضا بمصر العظيمة الحبيبة، فكيف تكون مصر عظيمة وأهلها يحطمونها؟!.. وكيف تكون حبيبة على حين أن «الأفعال» تترجم الكراهية؟!

6 - تلك كلها حلول ومخارج تمهد الطريق والمناخ لانتخابات جديدة (إذا قدر أن تجري انتخابات ديمقراطية جديدة في المستقبل في هذا البلد)! على أن ما هو أهم من الانتخابات النمطية: التحرر من الوهم - الذاتي والمستورد - من أن حل المشكلات كافة يكمن في «صندوق الاقتراع»، فقد دلت التجربة المرة على أن هذا الصندوق العجيب لم يحل مشكلة الحكم، ولا المشكلات الأخرى.

وهنا نعيد طرح ما قلناه في بواكير النشوة المخبولة بالربيع العربي، فقد قلنا منذ سنوات ثلاث - تقريبا: إن على أولي العلم والفكر من المصريين: أن يجتهدوا في استنباط صيغة جديدة للحكم، تخرجهم من دوامة تقليد الديمقراطية الغربية التي جربوها بعد الاستقلال ففشلت، وتسبب فشلها في مجيء العسكر إلى الحكم!