الصومال.. وربيعه الخاص!

TT

زرت الصومال مرة واحدة عام 1986، والبلد كان في وضع «سوريالي» يحكمه ديكتاتور اسمه محمد سياد بري، أحكم قبضته على البلاد التي كانت تعتمد في مواردها على ثلاثة مصادر وهي: تصدير المواشي، وزراعة الموز (والتي كانت حكرا على شركة إيطالية اسمها «صومالي فروت»)، واستغلال الشواطئ الصومالية والبحار الصومالية لشركات صيد السمك العالمية مقابل حقوق مالية (الصومال لديه أكبر واجهة بحرية في القارة الأفريقية بعد جنوب أفريقيا). وكان الرجل غريب الأطوار يلعب على كل الحبال، تارة يظهر أنه «اشتراكي» لاستمالة الدعم من الاتحاد السوفياتي، وتارة يميل للغرب، ومرات يظهر أنه عروبي وقومي، وتارة أنه إسلامي.

قابلت السفير السعودي وقتها الدكتور عبد الله عالم، الذي قال لي إن محمد سياد بري يمكن أن يتصل به الساعة الرابعة صباحا، وإذا كان مستاء يحدثه باللغة الصومالية، وإذا كان في حالة سعيدة ولديه مطالب يحدثه باللغة العربية الفصحى.

العملة الصومالية «الشيلنغ» لم تكن تساوي ثمن الورق المطبوع عليها، وبالتالي لم تكن مقبولة للتداول في أي مكان. مدير «الخطوط السعودية» في مقديشو وقتها كان يقول لي إنهم يتبعون أغرب وسيلة لسداد ثمن تذاكر الركاب للرحلات الثلاث الأسبوعية بين جدة ومقديشو، فكانوا يرسلون للسعودية خرفانا مقابل «تقدير» لعدد الركاب فتباع ويقبض ثمنها في السعودية مقابل أجرة الركاب. هذه نماذج من حال الصومال وقتها والذي كان «في عز وأمان» ثم دخل في أتون حرب أهلية مدمرة وفتاكة أدت إلى تقسيم فعلي للبلاد، وأصبحت بأرض الصومال القديمة ثلاث جمهوريات حالية وإن كان العالم لا يعترف إلا بواحدة منها وعاصمتها مقديشو.

وتعرض الصومال إلى غزو ممنهج من أباطرة التطرف والإرهاب، وظهرت منظمة باسم «الشباب» وهي إحدى المنظمات المنتمية لتنظيم القاعدة الإرهابي، وظهر زعيم لهذا التنظيم باسم حسن ضاهر والمعروف باسم «أويس»، وهو ذو لحية حمراء. وعاث التنظيم في الصومال إرهابا، وأطلق سلسلة طويلة من الحملات الإجرامية والاغتيالات والتفجيرات والسيارات المفخخة، مما استدعى طلب تدخل قوات أفريقية لحفظ الأمن والسلام وملاحقة هذه المنظمات الإرهابية، حتى تم القبض على الزعيم الإرهابي.

هناك رئيس جديد للصومال تم انتخابه في انتخابات وصفت في العموم بأنها نزيهة، وبدأت العديد من ملامح وأشكال وعلامات الاستقرار تتكون في البلاد التي نسيها الزمان ولم يعرف عنها سوى أنها بؤرة للإرهاب ولقرصنة أعالي البحار. بدأت الدولة تبسط قوتها في العاصمة، وبدأت التجارة تعود، والمشافي تعمل، والمدارس فتحت أبوابها. ومع وصول الدعم المالي من بعض المنظمات الدولية ودول العالم الكبرى بدأت استثمارات بسيطة في قطاعات السياحة والفنادق والطيران والصناعة التحويلية تؤتي بثمارها، وأدى ذلك لعودة بعض رؤوس الأموال الصومالية المهاجرة مجددا لبلادها.

والآن في إشارة لتطور الأمور في الصومال إلى طبيعتها بالتدريج يجيء خبر بدء تقييم اتحاد كرة القدم الدولي المعروف باسم «الفيفا» حالة اللعبة وتجهيزاتها وملاعبها في الصومال، وذلك استعدادا وتمهيدا لضم الصومال مجددا للفيفا كعضو عامل وكامل. السلام المتكامل والسلمية السوية في كامل الأراضي الصومالية لا يزالان مسألة بعيدة المنال، لكن وسط الأخبار المضطربة التي تأتي من دول العالم العربي المختلفة تأتي الأخبار الواردة من الصومال بالتدريج بمثابة نسائم هواء معطرة ومبشرة لبلد لم يعرف إلا الدم والقتل والرعب والفزع والفوضى لفترة امتدت لأكثر من ربع قرن من الزمان دفع الثمن فيها أهله بشكل باهظ، حتى بات مضربا للأمثال عن الدول الفاشلة التي تنتج الفوضى والإرهاب. لكنه اليوم يتحول إلى دليل عملي أنه متى توافرت الإرادة الشعبية والقيادة الحكيمة فهي قادرة على دحر الإرهاب وإعادة البناء بشكل مبهر. الكل يدعو وينتظر نهاية سعيدة للصومال الذي طالت مأساته.