مدن الصيف.. هل أنت فينيقي؟

TT

مرت فترة طويلة على اللبنانيين وهم يتخانقون حول قضية حديثة العهد: هل هم عرب أم فينيقيون؟ المسيحيون من أهل الجبال، الذين لم يروا في حياتهم صيدا وصور وحتى بيروت، أصروا على أنهم فينيقيون. والمسلمون من سكان الساحل تاريخيا، أصروا على أن كل ما هو فينيقي خائن. وكان هناك فريق ثالث يقول كل من ينفي عروبة لبنان سخيف. وكنت من ذاك الفريق، أو ذياك، إذا كان يطيب الوقع.

انتبهت إلى أنه ليس من عيب في أن تكون جذور المرء فينيقية عندما رحت أسمع إخواننا في تونس، قبل بدء عصر النهضة، يفاخرون بأصولهم الفينيقية. وأنا أعتبر التاريخ شيئا عظيما لكنني من الذين يعتبرون الحاضر والمستقبل هما التحدي الذي يمكن أن نفاخر به وليس قلعة مهجورة في تدمر تركتها جدتنا زنوبيا كانت في الماضي مملكة من ممالك النجاح في الأرض.

الآثار دليل على تهاوي الحاضر لا على أمجاد الماضي. الحصون والقلاع المهجورة لوحات جميلة تذكر الإنسان بالموت. أنا أفضل مشهد طاحونة كبرى أو مصنع أو محطة تحلية تبعد شبح العطش والقحط والجدب. لذلك لم تتعدّ جولاتي في آثار لبنان، اللعب طفلا في مياه قلعة صيدا وحضور حفلات فيروز في بعلبك. كل ما قيل وكتب عن فينيقيا، لم يكن لي.

لكن عندما أقرأ ما يكتبه المؤرخون الأجانب عن أوائل المسافرين في هذا العالم، أشعر أنني في هذا المعنى كنت فينيقيا، مع أن أجدادي جاءوا من الصحارى: أهل الأم جاءوا من تهامة وأهل الأب من تدمر. وقد أصبح في الإمكان بعد اكتشاف «الجينوم» العام 2000 تحديد الجذور والأصول. لكن مع تحياتي إلى الجد من تهامة والذي من تدمر، فإن همي الحقيقي ابنتي وابني. أتمنى أن أصبح ذات يوم جدا طيبا كما كان جدي لأبي، الذي كان فيه القليل من طبائع البشر.

يقول سيمون ونشستر في كتابه «الأطلسي» إن أول قارب ظهر في الكويت لكنه لم يبحر بعيدا. الثاني في عمان. لكن أيها الخليجيون لا تفرحوا طويلا، فهذا المؤرخ يقول إن أول مركب صالح لنقل الناس والبضائع أبحر إلى الأطلسي من صور. قد يقول العمانيون، يعني من صور عمان! لا يا سيدي. من صور اليسار التي منها كانت قرطاج التي أحبها الحبيب بو رقيبة، تقريبا، قدر ما أحب المنستير. وكالعادة كان على حق. إنها، بآثارها، أجمل ما في تونس، وسوف يعترض كثيرون، فالجمال في عين الرائي.

المؤرخ نفسه يقول إن أول حاضرة في المنطقة كانت أريحا. لماذا بنى الفينيقيون سفنا قادرة على قهر الأنواء؟ من أجل التجارة. سوف يبني الكويتيون فيما بعد المراكب التي تمكنهم من صيد اللؤلؤ، جوهرة جوهرة وموزة موزة، والموزة في اللؤلؤ هي الملكة في النحل. المعجزة لم تكن أن الفينيقيين المقيمين على ساحل البحر أصبحوا الملاحين الأوائل، بل في أن العرب القادمين من الصحراء أصبحوا أسياد البحار، مروضين اليم على مدى أفريقيا الشمالية، ثم مخترقين «بحر الظلمات». إذن، سواء كان محبركم فينيقي المرافئ أو صحاري الجذور، فقد أخذ من الاثنين حب السفر. لكنه أصبح متعبا الآن. عندما يبلغ المرء مرحلة السفر المريح تكون الأجسام قد تعبت في مرادها. كما قال الشاعر.

إلى اللقاء.