متلازمة بروكسل البريطانية

TT

تتبنى صحيفة «الديلي ميل» توجها واحدا هو أن بريطانيا لم تعد كما كانت، وأنها ستستغرق وقت طويلا كي تسترد عظمتها دون مزارع الرياح وهواجس الأمن والشغف باللون الأخضر والمبالغة في التشريع والأهم من ذلك - الاتحاد الأوروبي وتدخل قادته.

نجحت التركيبة وصارت «الديلي ميل» أبرز أسوأ صحيفة في العالم، فهي تؤكد على كل ما هو بريطاني بصورة تثير الفزع. فمزجها بين الجنس والمشاهير والفضائح وتوبيخ بروكسل، أشبه بالإدمان المقزز لمتابعي مسلسل كارداشيان. وتتباهى الصحيفة بتوزيع يومي يصل إلى 1.6 مليون نسخة، يصل إلى نحو 2.5 مليون نسخة يوم السبت. ولديها موقع ناجح للغاية هو «ميل أون لاين»، لكن تلك قصة أخرى.

ما أخشاه هنا لا علاقة له بذكاء صحافيي «الميل»، بل بهواجسها بشأن ما يصيب بريطانيا من متلازمة بروكسل الحادة. حيث تدعو «الميل» بقوة إلى تخلي بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي المؤلف من ثمانية وعشرين دولة. كما هو الحال مع الصحيفة اليومية الوحيدة التي تفوقها مبيعا، صحيفة «ذا صن».

تشكل أوروبا بالنسبة للصحيفتين صيغة شبيهة بعض الشيء بالاتحاد السوفياتي، تحمل خططا لتنظيم كل شيء بدءا من حصص النساء في مجالس الإدارة إلى ساعات عمل الطبيب.

صحيح أن قضية الاتحاد الأوروبي تلقى رواجا هذه الأيام، فالاتحاد يخضع لهيمنة ألمانيا، دولة تشعر بعدم الارتياح إزاء الهيمنة، فيما تحولت دول جنوب الاتحاد إلى فزاعة اقتصادية.

صار الاتحاد ناديا منقسما على نفسه، يضم 17 عضوا في منطقة اليورو و11 عضوا خارجها. داخل منطقة اليورو، تطلب ألم اليورو دفعة نحو تحقيق الفيدرالية - تحرير العملة ولكنه في الوقت ذاته كان الاتجاه الذي لا ترغب الكثير من دول منطقة اليورو (خاصة بريطانيا) المضي فيه. أما بالنسبة للإنجازات الكبيرة للاتحاد، على سبيل المثال، فكان السلام في قارة بلا حدود.

بيد أن أيا من هذا لا يفسر تماما النفور الذي روجت له صحيفة «الميل». ورأيت في أحد الأيام هذا العنوان: «لقد ولدت مواطنا بريطانيا، وأريد أن أموت بريطانيا. ولكن أن يتصدى قادتنا الجبناء لبروكسل، فلن أتمكن من ذلك».

كان المقال يتحدث عن خطة محتملة - الفعل «ربما» هو المفضل عندما يتعلق الأمر بأهداف الاتحاد الأوروبي التي نادرا ما تتحقق - لوضع علم الاتحاد على شهادات الميلاد البريطانية. كان المقال بقلم ستيفن غلوفر، الذي عملت معه في صحيفة «إيزيس» التي كان يصدرها طلبة أكسفورد، وكان شخصا عقلانيا دمثا. وفكرت أنه إذا كان غلوفر يخاف من أن تضيع هويته البريطانية على يد المؤيدين لبروكسل، ربما كان هذا الخطر حقيقيا.

رؤية علم الاتحاد الأوروبي الأزرق والذهبي أمر توقعته هذه الجزيرة الملكية قبل محاولات الانكفاء على الذات: لكن بريطانيا، التي كانت عضوا بالاتحاد على مدى 40 عاما حتى الآن، بحاجة إلى الاتحاد الأوروبي والعكس بالعكس. فما يقرب من نصف الصادرات البريطانية يذهب إلى الاتحاد. ترتبط الملايين من فرص العمل بهذه الصادرات. ويختار المستثمرون الأجانب بريطانيا بسبب قدرتها على الوصول إلى السوق الأوروبية الموحدة. وستترك عدد من شركات صناعة السيارات في بريطانيا البلاد في حال خرجت بريطانيا. ستكون الولايات المتحدة غاضبة جدا. وستجد المصارف التي جعلت من مدينة لندن مركزا ماليا في أوروبا بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي «أقل جاذبية» وستهاجر بمرور الوقت، بحسب مقال لمسؤولين بارزين في مصرف غولدمان ساكس في صحيفة «التايمز» اللندنية.

وماذا عن كل البريطانيين الذين اعتبروا حقهم في التقاعد في دوردون أمرا مفروغا منه، أو أن أكثر من 2.3 مليون شخص من الاتحاد الأوروبي جعلوا الاقتصاد البريطاني ينتقل من المدينة إلى المزرعة؟، وتقول هيلين ألكسندر، رئيسة جامعة ساوثهامبتون: «إن الرحيل يشكل كارثة كبرى، فكل من يأتي هنا يعلم أننا بحاجة لأن تكون جزءا من شيء قوي في العالم، لا مجرد بلد صغير مهمل».

ويصر نايجل فراج، زعيم حزب الاستقلال في المملكة المتحدة، الذي قال لي إن صحيفة «الميل» تقلل من الحقيقة المروعة («75 في المائة من حياتنا يخضع للاتحاد الأوروبي»)، فهو يرى أن القومية الأوروبية أشبه بيوغوسلافيا، ويسخر من رئيس الوزراء ديفيد كاميرون («كانوا يتحدثون عن المشاريع والنجاح، والآن يتحدثون عن زواج مثليي الجنس، ومزارع الرياح»)، ويرى أن بريطانيا في أوروبا «مربع في حفرة مستديرة».

وقال «لا أحد يريد ذلك».

كان كاميرون قد دعا لإجراء استفتاء حول البقاء أو مغادرة الاتحاد الأوروبي، سيجري على الأرجح في عام 2017، وتأتي هذه الدعوة في جانب منها، كوسيلة لدرء حزب الاستقلال. في الوقت نفسه، ستتضاعف أعلام الاتحاد الأوروبي في أنحاء بريطانيا، مع مولودها الملكي، والانتصارات الأولمبية. وسترفرف فوق الأمة التي لم تبد أوروبية على الإطلاق. لقد وجد الشعب الفرنسي الذي أنهكه الشعور بالضيق عملا. وكذلك فعل البولنديون والإيطاليون. إن بريطانيا تمثل قارة أوروبا بساعات عمل أكثر مرونة.

لا تكره صحيفة «الميل» بروكسل، لكن هذه هي بريطانيا، دولة أوقعت نفسها في عدد من المآزق بسبب غضب غامض. وقد تخرج بريطانيا من أوروبا بتذكرة بلا عودة - والذي إن حدث فأنا أخطط لمغادرة بريطانيا في نفس التوقيت.

* خدمة «نيويورك تايمز»