من جنرال إلى جنرال

TT

بعد فعل التغيير الأهم الذي قام به مجموعة من الضباط المتوسطي الرتبة، يترأسهم جمال عبد الناصر، وعرف رسميا بـ«ثورة يوليو 1952»، ومن قبل هذا الفعل الانقلاب العسكري الأول، من حيث نجاحه كفعل، وليس كحركة تغيير نحو الأحسن، الذي قام به الضابط السوري العالي الرتبة حسني الزعيم صباح يوم الأربعاء 30 مارس (آذار) 1949.. بعد هذين الفعلين باتت عيون الجنرالات والأقل رتبة في بعض دول الأمة تتطلع إلى المنصب الأعلى في الدولة. وبين عامي 1952 و2012 لم تنجُ الدول العربية من أحلام الجنرالات، التي انعكست في معظمها كوابيس على الرأي العام.

في سوريا، تعددت أفعال التغيير لتستقر عند الفعل الانقلابي للواء حافظ الأسد، الذي استنبط صيغة الحزب في خدمة الجيش، والجيش في خدمة رئيس النظام، والنظام قضيته الأساسية تمتين أساسات الطائفة وإرجاء أي قضايا أخرى، تماما كما الحال بعد أربعة عقود في مصر، عندما قيض لجماعة «الإخوان المسلمين» الإمساك بمقاليد الحكم، فباتت قضيتهم الأساسية هي تطبيق مشروعهم، أو ما اصطُلح على تسميته «أخونة» الدولة بكل مفاصلها، من مؤسسة الرئاسة إلى المؤسسات الدينية والتشريعية والعسكرية، وكذلك إضفاء لمسات ا«أخونة» على الفن والسياحة.

بعد أفعال التغيير الانقلابي المتلاحقة في سوريا حدث فعل التغيير الأهم في العراق، حيث التف الشيوعيون حول الجنرال عبد الكريم قاسم، وأمعنوا دموية وتمثيلا بجثث كرام القوم، ومن أجل ذلك، التقى البعثيون في أشخاص بعض ضباطهم مع ضباط ناصريين، وأسقطوا الشيوعيين وقاسِمَهم من الكأس المرة نفسها.

في السودان، أمسك الجنرالات بقيادة إبراهيم عبود بالرئاسة ضد حكم مدني وطني الهدف والسلوك الاجتماعي، لكن أحزاب السودان العريقة من أنصار وختمية وإسلامية وشيوعيين ونقابات واتحادات نسائية اجتمعت على شعار «إلى الثكنات يا حشرات»، وأمكنهم توزيع مغانم نجاح فعل تغييرهم من دون إراقة دماء أحد، لكنهم لم يحسنوا توظيف «ثورتهم»، فجاءت مجموعة رواد في الجيش يترأسهم العقيد جعفر نميري، شتت شمل هذه القيادات الحزبية، وتنقل البعض منهم من السرايات إلى المعتقلات، تثبيتا لظاهرة أن الجيوش تحرس الوطن وتحكم البلاد خلافا للواجب الملقى على عاتقها، وهو حراسة الأوطان والدفاع عنها وترك الحكم للمدنيين. وعندما ضجر السودانيون من بقاء نميري يترأس، فإنهم تململوا، ثم كادت مشاعر التململ تتحول إلى انتفاضة، استبقها الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب، الذي سجّل حالة استثنائية في عالم أحلام الجنرالات في الإمساك برئاسة البلاد، حيث إنه قطع الطريق على عودة نميري الذي كان على سفر في أميركا. وكان الجنرال سوار الذهب عند كلمته، فغادر بعد سنة انتقالية ليعاود الحزبيون الحكم وفق أسلوب لم يصمد أمام جنرال جديد استنبط صيغة غير مطروحة، وهي معادلة العسكر والدين، على نحو معادلة تحالف العسكر والحزب في سوريا ثم العراق. وكما كان البعث هو التجربة الأولى التي فرقت أكثر مما وحدت وطورت مفهوم القيادة العنيفة والحديدية، بدل التطبيق الموضوعي والصادق لعقيدة الحزب ومبادئه، فإن تجربة السودان في شخص الشيخ الإخواني حسن الترابي رمزا دينيا، والجنرال عمر البشير رمزا عسكريا، سارت في المنحى نفسه للتجربة البعثية، ثم حدثت عسكرة الدين بزج الشيخ الترابي في السجن، مرة بعد أخرى، واستئثار الجنرال البشير بالسلطة، مدونا في كتاب أفعال التغيير تجربة سعى إليها «الإخوان» في مصر، الذين كانوا على نحو ما يجوز الافتراض يهيئون جنرالاتهم لكي يكملوا بهم الحلقة العسكرية من مشروع الأخونة، لكن كبير الجنرالات في جيش المحروسة عبد الفتاح السيسي بحذاقة خبرته الاستخباراتية وحسن قراءته لخصائص الشخصية المصرية، وإحاطته بحقائق تتعلق برموز المجتمع المدني والسياسي وتطلعات جيل الشباب، انتفض في اللحظة المناسبة، لتبدأ مصر كتابة حقبة جديدة مع جنرال أثبت من خلال إطلالته وتحليله وإغفاله لمظاهر طالما ارتبطت بجنرالات عرب سابقين، أنه قد يكون مثل سوار الذهب في السودان.

ووراء القضبان في توقيت متقارب مع فعل التغيير السوداني، على أيدي العقيد نميري ورفاقه الرواد، حدث في ليبيا السنوسية الملكية الفعل المشابه، على أيدي العقيد معمر القذافي ومجموعة من الضباط المتوسطي الرتبة. واستنسخ هؤلاء فيما فعلوه أسلوب ثورة عبد الناصر في مصر. وعاشت الجزائر ثلاثة أفعال تغيير على أيدي جنرالات. وانضمت تونس إلى الركب بفعل التغيير الذي قام به الجنرال المتمرس أمنيا زين العابدين بن علي، ثم حذت حذوها موريتانيا.

وكما كانت أفعال التغيير المشارقية مزيجا من الخيبة والعنف والقمع والكرامات المستباحة، فإن أفعال التغيير المغاربية كانت في معظمها من المزيج نفسه. ونستثني ونحن نقول ذلك حالة عابرة، هي الحالة اللبنانية التي تتسم بتميز تختلط فيه الإيجابية بالسلبية، ذلك أن لبنان بلد ديمقراطي. وفي الأنظمة التي من هذا النوع ليس محرما على الجنرال أن يتطلع إلى الترؤس، بدليل أن فرنسا العريقة ديمقراطيا ترأسها الجنرال شارل ديغول. لكن ترؤس هذا الجنرال لم يحدث على الطريقة العربية، أي باستعمال الدبابة واحتلال الإذاعة وإلقاء البيان رقم واحد وبقية البيانات، وإنما لأنه صاحب تاريخ عسكري مجيد، شأنه في ذلك شأن مثيله في المجد العسكري دوايت أيزنهاور، وكلاهما سجل (كل في بلده) أنه صاحب مبدئية وضمير وإنساني، وليس كما بعض الجنرالات الذين ترأسوا في العالم العربي.

ولقد بات ترؤس الجنرالات في لبنان كما لو أنه مادة غير منصوص عليها في الدستور، بعد ترؤس الجنرال فؤاد شهاب، ثم ترؤس الجنرال إميل لحود، فترؤس الجنرال ميشال سليمان، وتطلع قائد الجيش الحالي جان قهوجي إلى أن يترأس بعد الرئيس ميشال سليمان، الذي قاربت سنواته الست على الانتهاء.

ونتيجة هذا الترؤس، بات كل مَن يشغل منصب قائد الجيش في لبنان يتصرف على أساس أنه مشروع رئيس للبلاد، وهذا يجعل قيادته للمؤسسة العسكرية تسير في اتجاه الريح السياسية العامة.

وعند التأمل في أقوال هؤلاء القادة، نلاحظ أن قائد الجيش أحيانا سياسي في زي عسكري مرقط أو عادي وبكامل الأوسمة.

وما نريد قوله بالنسبة إلى أحدث جنرالات الأمة الفريق عبد الفتاح السيسي إنه، حتى إشعار آخر، مختلف من حيث التطلعات، ذلك أنه رأى بالعين البصيرة أن استمرار مصر على الحال التي هي عليها حتى آخر عام 2013، يعني أن احتمال التفكك وارد، وأن مصر ستصبح بالفعل أسيرة طوق إخواني. وحيث إن هذا الدور هو ضمانة للاستقرار في مصر وللمنطقة عموما، في ظل النمو السريع للقدرات العسكرية الإيرانية، فإن الفريق السيسي قام من وسط ركام التخبط السياسي والأمني في مصر، وأطلق صرخة تردد صداها في رحاب صاحب الرؤية الحكيمة الملك عبد الله بن عبد العزيز الأدرى بما يحاك للمنطقة من مشاريع ملتبسة، فكانت تحذيراته ونصائحه لمن يحتاج إلى النصح وتنبيهاته للغافلين من قادة أوروبا وأميركا عما يمكن أن يحدث. كما كانت على نحو عهد الأشقاء به وبإخوانه أبناء الملك عبد العزيز من قبل في التصرف بنخوة عند الشدة تواجه الأشقاء، وبالذات مصر الأمانة والأمينة.

ومن محاسن الأقدار أن جنرال الزمن المصري الراهن يملك من المواصفات وصدق النية ما يجعلنا نتفاءل.