رجل الدولة والأزمات

TT

نادرا ما تجتمع صفات كـ«الزعيم»، و«القائد ذي البصيرة المستقبلية»، و«رجل الدولة»، في شخص واحد؛ لكن قدر الإنسانية لانتصار قوى الخير على الظلام، أحيانا ما يقدم هذه الشخصية التي لا تتكرر إلا بعد أجيال. مثلا تقدم الزعيم ورجل الدولة الراحل السير وينستون تشرشل في الوقت المناسب ليقود تحالف الصمود لدحر النازية والفاشية، وتذكرته في مقال المؤرخ العسكري الأميركي روبرت رايلي بأن الجيش المصري يؤدي للأمة المصرية واجبا فات الجيش الألماني تأديته عام 1933 بعد انتخاب أدولف هتلر.

المنطقة تواجه أزمة تهدد هويتها واستقرارها، فيتقدم رجل دولة، وزعيم برؤية مستقبلية ليقود تحالفا نحن في أمس الحاجة إليه لنصرة مصر في معركة مصيرية. بخيار استراتيجي وتوقيت حاسم تحرك خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بإعلانه التاريخي بوقوف المملكة وشعبها إلى جانب الشعب المصري في معركته ضد الإرهاب. معركة تخوضها مصر حماية لتراث إنساني يهم البلدان العربية كلها وهو ملك لمسلمي العالم.

أدرك رجل الدولة عبد الله بن عبد العزيز أهمية المعركة، بحواسه التاريخية، والاستراتيجية السياسية والجغرافية. تاريخيا، الأقدار تكرر تحميل مصر عبء إنقاذ هوية المنطقة الحضارية ورقاب أهلها من سيوف الغزاة.. عند عين جالوت لتوقف زحف التتار، وعند فارسكور لتكسر حملة لويس التاسع، ويأسره المصريون، وفي العلمين عندما تجمعت أكثر من ستين جنسية وعرقا وديانة لتوقف غزو النازي شمال أفريقيا. اليوم قدر مصر أن تقف في وجه ما يهدد هويتها والمنطقة والإسلام برفضها أن تتحول لقاعدة للفاشية تمتد منها أذرع أخطبوط الإرهاب.

خادم الحرمين في حساباته الاستراتيجية والجغرافية (إلى جانب الموقف المبدئي الذي جعل صوره ترتفع باحترام بالغ في كل تجمع مصري اليوم)، أن الخطر الذي يحيق بالمنطقة من وقوع مصر في يد القوى الفاشية خاصة وترديد الإخوان أنهم سيحكمون لخمسمائة عام (من يذكر صيحات هتلر النازية: «الرايخ الثالث سيحكم لألف عام»؟) ومدى تأثيرها على المنطقة كلها.. ليس فقط لأن الإخوان (بشعارهم الشهير: «طز في مصر») حساباتهم هدم الدولة القومية، أساس النظام العالمي لعشرة قرون، ويأتون بـ«القاعدة» (التي عانت المملكة من إرهابها في السنوات للأخيرة) إلى سيناء وتنهار أقدم دولة في التاريخ فحسب، بل لأن لقبه الرسمي هو «خادم الحرمين»، وهي مسؤولية لمدى الحياة، بحماية أهم مقدسات ملايين المسلمين حول العالم، فكيف يقف متفرجا على محاولات جماعة أن تسرق الإسلام، وهو خادم أهم مقدساته وحامي مكان مولد الدين الحنيف؟!

مفهومه للأمن هنا يشمل البعد العالمي للأمن الإقليمي، ورأينا كيف أسرعت الإمارات العربية المتحدة (ولها مكانة عميقة زرعها في قلوب المصريين مؤسس دولة الإمارات المرحوم الشيخ زايد، وكم من شارع ومشروع باسمه في مصر) بعد دقائق بإصدار تصريح متواز، وليس مستقلا، بوقوفها شعبا وحكومة بجانب المملكة في دعمها لمصر في حربها على الإرهاب. تحرك خادم الحرمين ليشكل محورا قويا مع التعاون الخليجي دعامة للجبهة المصرية التي تدور فيها معركتها ضد الفاشية والإرهاب.

خيار تاريخي استراتيجي، ورسالة واضحة بتوقيت رجل الدولة البارع، عشية اجتماع لمجلس الأمن، وضوضاء عن فرض عقوبات اقتصادية أوروبية على مصر، واختيار كلمات بعناية عن وقوف المملكة وشعبها بحزم وبكل إمكاناتها في معركتها ضد الإرهاب. وأذكر الشباب بموقف تاريخي لابن آخر لعبد العزيز بن سعود، المغفور له الملك فيصل، عشية حرب 1973 بدعمه لمصر ووقف ضخ وتصدير البترول ليغير التوازنات الاستراتيجية الدولية ويقدم الدروع الاقتصادية لجنود مصر عندما راقصت قطرات دمائهم موجات قناة السويس وهم يعبرونها إلى سيناء. ها هو عبد الله بن عبد العزيز يقدم دروعا جديدة ويشد على أيدي جنود مصر وقطرات دمائهم ترتطم برمال سيناء وهم يطاردون الإرهابيين.

تحليلات الخبراء العسكريين والوطنيين الأميركيين (كجون بولتون سفير أميركا السابق لدى الأمم المتحدة، في «وول ستريت جورنال») يحذرون الرئيس أوباما من الانسياق وراء رجال كونغرس يريدون قطع الدعم العسكري (1.3 مليار دولار) تجدها متسقة مع تحذيرات خادم الحرمين من خطورة المساس بقدرات مصر، وقولهم إن الدعم العسكري هو استثمار بسيط مقابل مكاسب أميركا الاستراتيجية والعسكرية من التعاون مع مصر (كأولوية مرور سفن الأسطول الأميركي في قناة السويس، بدلا من الدوران حول أفريقيا، واستخدام المجال الجوي المصري، والتسهيلات في الموانئ والقواعد الجوية المصرية لنقل المعدات للخليج وأفغانستان، والتعاون الأمني ضد الإرهاب، والمناورات المشتركة، والعمليات البحرية في خطة العمل ضد القراصنة الذين يمولون الإرهاب في القرن الأفريقي).

وتبعت رسالة خادم الحرمين رحلة وزير الخارجية، الأمير سعود الفيصل، وهو من أقدم وزراء خارجية العالم خبرة، وأكثرهم احتراما ومعرفة لدى المجتمع الدولي، حيث قابل الرئيس الفرنسي في الإليزيه وحذر، بلغة دبلوماسية موجهة للعواصم الغربية، بأن مجرد التفكير في فرض العقوبات على مصر وقطع الدعم عنها، وانتقادها، يوصل رسالة خاطئة إلى قوى تهدد بحرق مصر - أي لغة دبلوماسية تترجم إلى أن المواقف الغربية في البداية شجعت الجماعة على عدم الدخول في الحوار السياسي والحكومة الائتلافية مع القوى الوطنية التي اجتمعت في أول الشهر الماضي، ورفض الإخوان ومرسيهم الانضمام إليها، فاستمروا في الاعتصام، بدلا من توجيه رسالة واضحة بأن الغرب لن يتدخل لإعادتهم للسلطة بعد أن تظاهر 30 مليون مصري في الشوارع لإسقاط نظامهم، وكان ذلك يوفر دماء أهدرت ودموعا ذرفت.

قول الأمير سعود الفيصل إن المملكة تستغرب من مواقف بعض الدول الغربية وتحذيره من التدخل في شؤون مصر، إشارة لدول أوروبا أن معاداة الإرادة الشعبية المصرية سيكون لها تأثير على مصالحها يتجاوز حدود مصر ليصل إلى بلدان الخليج. تحرك خادم الحرمين، دفع الغرب لإعادة الحسابات.. المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية نفت الثلاثاء ما تردد عن تجميد الدعم السنوي العسكري لمصر، وفي اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الأربعاء، كانت الإجراءات رمزية، كمنع إصدار تصاريح تصدير لمواد تستخدم في «قمع المظاهرات المدنية»، ولا حديث عن قطع دعم خمسة مليارات يورو للمجتمع المدني، وورقة توت التراجع كانت «خشية الإضرار بمصالح المجتمع المدني».. فشكرا لرجل الدولة خادم الحرمين، ولأصدقاء الشعب المصري في الإمارات والكويت وبقية الخليج وحول العالم.