الخليج وسوريا ومصر: تكتل جديد وأوهام متفشية

TT

مفجع حد الأذى ما جرى في سوريا قبل أيام من مجزرة رهيبة بالغوطة الشرقية في دمشق، تلك التي استخدم فيها نظام الأسد السلاح الكيماوي وقتل ما يقارب الألف وأربعمائة إنسان جلهم من النساء والأطفال.

الأزمة السورية مستمرة في مكانها من الناحية الدولية، فلا تغييرات تذكر في السياسات الدولية تجاهها، ولكن إقليميا بدأ أصدقاء سوريا الحقيقيون في السعودية ودول الخليج باتخاذ خطوات أكثر تأثيرا وفاعلية على المستوى الميداني والسياسي.

ونظرا للأحداث الحالية في المنطقة، فإن تكتلا إقليميا جديدا بدأ يظهر في الأفق؛ دول الخليج العربي - باستثناء واحدة - تقودها السعودية والإمارات تتجه لضم مصر قوية ومستقرة إليها بعدما تخلصت من حكم جماعة كانت تريد اختطاف مصر من عمقها الاستراتيجي العربي ورميها في جيب المحور الإقليمي المعادي للعرب، ومن الممكن القول تجاوزا إن الطريق إلى دمشق بدأ من القاهرة.

وفي خضم هذه الأحداث الكبرى لم يزل رئيس أقوى دولة في العالم حائرا ومتحيرا يضع الخطوط الحمراء، ثم حين يجري اختراقها يقلب لونها للأخضر ويبني خطوطا حمراء جديدة.

لقد سمح الرئيس الأميركي باراك أوباما لروسيا بأن تصعد باعتبارها قوة عالمية جديدة، ثم عاد واستنكر مستغربا بعد حادثة فردية (كقضية سنودن) على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يستخدم مفردات الحرب الباردة، والأخير كان قد بدأ في ذلك قبل زمن باعتماد سياسات دولية لإعادة بلاده لاعبا قويا على المستوى الدولي على حساب الولايات المتحدة وكان على أوباما أن يستاء من هذا لا من مجرد مفردات في خطاب.

لقد اقترف أوباما خطأ استراتيجيا ستكون له آثاره في المستقبل، فهو سمح - وعى أم لم يعِ - باستخدام الأسلحة الكيماوية في النزاعات الكبرى، وهو ما قد يعيد تحريك عجلة إنتاج هذه الأسلحة بكميات أكبر واستخدامها في نزاعات إقليمية ودولية أخرى.

إن حجم التغيرات الدولية والإقليمية المتسارعة توجب نوعا من التفكير يتسم بالتميز والبرود والدقة والأناة، فلحظات التغير الكبرى ليست مجالا للمزايدات الكلامية أو البلاغية، بل هي للتأمل والتماس الوعي والمصالح بكل عناية.

إن الموقف السعودي والإماراتي تجاه مصر هو موقف تاريخي وهو مبني على مصالح استراتيجية حقيقية تجاه بلدانها وشعوبها وتجاه أقوى حليف استراتيجي في المنطقة مصر بكل ما تمثله من ثقل استراتيجي على المستويين الإقليمي والدولي.

إن التحالفات الدولية مفتوحة دائما على تغييرات بهذا الشكل أو ذاك يعاد فيها ترتيب العلاقات وتقدير المصالح، وبناء السياسات، وما يدفع باتجاه تلك التغييرات كثير، ومن ذلك على سبيل المثال، اكتشاف ضعف الحلفاء من القوى العظمى أو افتراق المصالح عنهم أو عدم وضوح الرؤية لديهم، أو ضعف التواصل أو دعم قوى إقليمية لا تراعي مصالح الحلفاء، أو ارتكاب أخطاء استراتيجية متكررة، كالموقف من العراق 2003 والموقف من إيران وتقدير مدى خطورة الموقف في سوريا وفي مصر ونحو ذلك كثير.

أيضا يكون هنالك أحيانا صعود مدروس في القوة الاقتصادية للدول الإقليمية وشعورها بأن حماية مصالحها ليس مرتبطا بمصالح الحلفاء الكبار إلا بقدر ما يخدم مصالحها الذاتية، والتوجه بالتالي للبحث عن أفضل السبل لحماية هذه القوة الجديدة وتطويرها وتطبيقها سياسيا عبر اتخاذ مواقف حاسمة تجاه القضايا الإقليمية الملحة.

كذلك ما تقوم به هذه الدول من تثبيت نفسها كلاعب قوي في المنطقة والعالم، ورفض أي استراتيجيات لأي حليف لخلق مراكز قوى جديدة يكون صعودها على حساب تلك الدول.

من جهة أخرى، تتفشى في لحظات الأزمات الكبرى كثير من الأوهام، وتقوم سوق الخرافات، وتروج بضاعة المؤمنين بنظريات المؤامرة من شتى الألوان والأشكال، والمشاهد المختلطة والفوضوية في الواقع تجبر البعض على الانسياق وراءها والخضوع لها، بحيث ينتقل اختلاط المشاهد من الواقع إلى الذهن فيتشتت الوعي.

أحد مستويات تفشي الأوهام هو مستوى التصور، وتصور ما يجري يبنى عادة على القدرة على جمع المعلومات وفرزها وتفادي تناقضاتها وتمحيص صحيحها من سقيمها.

ثم يأتي مستوى التوصيف. فتطيش بعض الأذهان وتستولي عليها الأوهام، فهل ما جرى في مصر في يناير (كانون الثاني) 2011 ثورة أم هياج شعبي وانتفاضة كبرى؟ وهل حققت الجماهير مطالبها بنفسها أم بانحياز الجيش لها؟ لا شك أنها لم تكن ثورة بل كانت انتفاضة كبرى ولم تحقق ما حققته إلا بوقوف الجيش إلى جانب الحشود. وقل مثل هذا فيما جرى في ليبيا، حيث كانت بداية الأحداث هناك صراعا مسلحا بين جناحين مسلحين في نفس النظام انتصر أحدهما بتدخل عسكري خارجي من «حلف الناتو».

ثم يأتي بعد هذا كله مستوى التحليل. وهو المستوى الذي يبنى على التصور الصحيح والتوصيف الدقيق، ليخرج برؤى كاملة تجمع السياسة بالتاريخ والثقافة بالمجتمع والسياق الحضاري بالواقع.

وأخيرا نصل لمستوى النتائج. وهو المستوى الذي يعبر فيه الوعي عن نفسه كل بحسب موقعه، السياسي في قراره واستراتيجيته، المثقف في رؤيته، والكاتب في تعبيره، والاقتصادي في مجاله، وهكذا دواليك.

ينتج عن الخلل الذي يقع في أي من هذه المستويات خلل أكبر فيما يليه، فيقع البعض في الخلط كل بحسبه، فالبعض يحاكم منطق الدولة إلى مفردات حقوق الإنسان، والبعض تجرفه الأماني للخطأ في التوصيف، والبعض يجنح للعواطف وتسيطر عليه المشاعر في تحليل المواقف السياسية التي منطقها المصالح، والأمثلة كثيرة ومنتشرة.

وللناس في نوعية الأوهام التي يختارون مذاهب متعددة وطرائق متباينة، فحين يجنح البعض لخرافات قديمة، كالأحلام والكرامات وتنزيل أحاديث آخر الزمان ونحوها، يختار البعض الآخر الجنوح لخرافات حديثة، كاللجوء لنظريات المؤامرة بعدة اتجاهات وتفسيرات: فالبعض يرى أن ما يجري في مصر مثلا مؤامرة ماسونية يراد بها ضرب مصر وشعبها خدمة لجماعة الإخوان من قبل الماسونية العالمية، ويقابله بعض آخر يكتب أن كل أعضاء الحكومة الجديدة بمصر ماسونيون كما كتب أحدهم، وهكذا فالجنون فنون لا تعد ولا تحصى.

أخيرا، يكفي كمثال جامع لمثل هذه الأوهام مراجعة مواقف كثير من السياسيين في العالم وفي الدول العربية وكثير من المثقفين والكتاب تجاه ما كان يعرف بـ«الربيع العربي» وتراجع أكثرهم عن التسمية والفكرة ليكتشف كيف يمكن أن تخدع الأوهام بعض النخب.